حَبَلُوهَا أَيْ أَوْثَقُوهَا فِي الْحَبْلِ لِيَذْبَحُوهَا، وَالْحَظَائِرُ والبساتين الْقَرِيبَةُ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَكَأَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ وَقَعَ بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ الْعَهْدَ وَمُعَامَلَتِهِمْ عَلَى الشَّطْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ نصًّا فِي تَحْرِيمِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَلَكِنْ لَا يُقَاوِمُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومٍ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ «1» .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادَيْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحْنَا يَوْمَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَلَمْ يَنْهَنَا عَنِ الْخَيْلِ «2» .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ «3» ، فَهَذِهِ أَدَلُّ وَأَقْوَى وَأَثْبَتُ، وَإِلَى ذَلِكَ صَارَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُمْ وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْخَيْلُ وَحْشِيَّةً، فَذَلَّلَهَا اللَّهُ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فِي إِسْرَائِيلِيَّاتِهِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَيْلَ مِنْ رِيحِ الْجَنُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ دَلَّ النَّصُّ عَلَى جَوَازِ رُكُوبِ هَذِهِ الدَّوَابِّ وَمِنْهَا الْبِغَالُ، وَقَدْ أُهْدَيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ فَكَانَ يَرْكَبُهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ إِنْزِاءِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ النَّسْلُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «4» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ مِنْ آلِ حُذَيْفَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَحْمِلُ لَكَ حِمَارًا عَلَى فَرَسٍ فَتُنْتِجَ لَكَ بَغْلًا فَتَرْكَبَهَا؟
قَالَ: «إِنَّمَا يَفْعَلُ ذلك الذين لا يعلمون» .
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مِنَ الْحَيَوَانَاتِ مَا يُسَارُ عَلَيْهِ فِي السُّبُلِ الْحِسِّيَّةِ، نَبَّهَ عَلَى الطُّرُقِ الْمَعْنَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي الْقُرْآنِ الْعُبُورُ مِنَ الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كقوله تَعَالَى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [الْبَقَرَةِ: 197] ، وقال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] ولما ذكر تعالى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا الَّتِي يَرْكَبُونَهَا وَيَبْلُغُونَ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِهِمْ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَهُمْ إِلَى الْبِلَادِ وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ وَالْأَسْفَارِ الشاقة، شرع في ذكر الطرق