وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [سَبَأٍ: 45] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الْمُلْكِ: 18] وَقَالَ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
[الْحَجِّ: 45- 46] وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الْأَنْعَامِ: 10] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى حُلُولِ نِقَمِهِ بِأَعْدَائِهِ وَحُصُولِ نِعَمِهِ لِأَوْلِيَائِهِ ولهذا عقب بقوله وهو أصدق القائلين ورب العالمين.
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)
لَمَّا قَصَّ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وَمَا كَانَ مِنْ إِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنْ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ أَيْ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنْبائِها أَيْ مِنْ أَخْبَارِهَا وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ الحجج عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هُودٍ: 101- 102] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ أَوَّلَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مُتَّجَهٌ حَسَنٌ كَقَوْلِهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الْأَنْعَامِ: 110- 111] الآية، وَلِهَذَا قَالَ هُنَا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أَيْ لِأَكْثَرِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.
مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أَيْ وَلَقَدْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ فَاسِقِينَ خَارِجِينَ عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه هُوَ مَا جَبَلَهُمْ عَلَيْهِ وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْلَابِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ وَشَهِدُوا على أنفسهم به، وخالفوه وَتَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَعَبَدُوا مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ لَا مِنْ عَقْلٍ ولا شرع، وفي الفطرة السَّلِيمَةِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ الْكِرَامُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ