منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حَتَّى قَالُوا لِعِيسَى، أَخْبِرْنَا عَنِ الْمَائِدَةِ وَنُزُولِهَا مِنَ السَّمَاءِ أَحَقٌّ، فَإِنَّهُ قَدِ ارْتَابَ بِهَا منا بشر كَثِيرٌ؟ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلَكْتُمْ وَإِلَهِ الْمَسِيحِ، طَلَبْتُمُ الْمَائِدَةَ إِلَى نَبِيِّكُمْ أَنْ يَطْلُبَهَا لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، فَلَمَّا أَنْ فَعَلَ وَأَنْزَلَهَا عليكم رحمة لكم وَرِزْقًا، وَأَرَاكُمْ فِيهَا الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ، كَذَّبْتُمْ بِهَا، وَشَكَّكْتُمْ فِيهَا، فَأَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ إلا أن يرحمكم الله، فأوحى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي آخُذُ الْمُكَذِّبِينَ بِشَرْطِي فَإِنِّي مُعَذِّبٌ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَى الْمُرْتَابُونَ بِهَا وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مَعَ نِسَائِهِمْ آمِنِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، مَسَخَهُمُ اللَّهُ خَنَازِيرَ، فَأَصْبَحُوا يَتَّبِعُونَ الْأَقْذَارَ فِي الْكَنَّاسَاتِ، هَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ جِدًّا، قَطَّعَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ جَمَعْتُهُ أَنَا لِيَكُونَ سِيَاقُهُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

وَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَائِدَةَ نَزَلَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيَّامَ عِيسَى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، كما دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ الْآيَةَ.

وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، فَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ، قال: هو مثل ضربه الله وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ (?) ، ثُمَّ قال ابن جرير: حدثنا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَائِدَةٌ عَلَيْهَا طَعَامٌ أَبَوْهَا حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِنْ كَفَرُوا، فَأَبَوْا أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَائِدَةِ: إنها لَمْ تَنْزِلْ، وَحَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا فَلَمْ تَنْزِلْ، وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ صَحِيحَةٌ إِلَى مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَقَدْ يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِأَنَّ خَبَرَ الْمَائِدَةِ لَا يعرفه النَّصَارَى، وَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَكَانَ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِهِمْ مُتَوَاتِرًا، وَلَا أَقَلَّ مِنَ الْآحَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ، وهو الذي اختاره ابن جرير، قال:

لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تَعَالَى إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قَالَ: وَوَعْدُ اللَّهُ وَوَعِيدُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- الصَّوَابُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ.

وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ نَائِبَ بَنِي أُمَيَّةَ فِي فُتُوحِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَجَدَ الْمَائِدَةَ هُنَالِكَ مُرَصَّعَةً بِاللَّآلِئِ وَأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الوليد بن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015