وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَصْلَبُ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ وَأَعْظَمُ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا حِجَارَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ الله كما قال تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية، حكاه القرطبي والرازي وَرَجَّحَهُ عَلَى الْأَوَّلِ، قَالَ: لِأَنَّ أَخْذَ النَّارِ في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فَجَعْلُهَا هَذِهِ الْحِجَارَةُ أَوْلَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّارَ إِذَا أُضْرِمَتْ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدُّ لِحَرِّهَا وَأَقْوَى لِسَعِيرِهَا وَلَا سِيَّمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ مِنْ أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ مُعَدَّةٌ لِذَلِكَ، ثم أخذ النار بهذه الْحِجَارَةِ أَيْضًا مُشَاهَدٌ، وَهَذَا الْجِصُّ يَكُونُ أَحْجَارًا فيعمل فِيهِ بِالنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَحْجَارِ تَفْخُرُهَا النَّارُ وَتَحْرِقُهَا وَإِنَّمَا سِيقَ هَذَا فِي حَرِّ هَذِهِ النَّارِ الَّتِي وُعِدُوا بِهَا، وشدة ضرامها وقوة لهبها كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الْإِسْرَاءِ: 97] وَهَكَذَا رَجَّحَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْحِجَارَةَ الَّتِي تُسَعَّرُ بها النار لتحمر وَيَشْتَدَّ لَهَبُهَا قَالَ: لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَذَابًا لِأَهْلِهَا، قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ فُسِّرَ بِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ آذَى الناس دخل النار، والآخر أن كل ما يؤذي فِي النَّارِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهْلُهَا مِنَ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ (?) .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أُعِدَّتْ عَائِدٌ إِلَى النَّارِ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، وَيُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلى الْحِجَارَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَا مُنَافَاةَ بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان، وأعدت أي رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عن ابن عباس أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ: أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أن النار موجودة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ أَيْ أَرُصِدَتْ وَهُيِّئَتْ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ مِنْهَا «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ» وَمِنْهَا «اسْتَأْذَنَتِ النَّارُ رَبَّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ» وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْنَا وَجْبَةً (?) فَقُلْنَا مَا هَذِهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا حَجَرٌ أُلْقِيَ بِهِ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً الْآنَ وَصَلَ إِلَى قَعْرِهَا» وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ خَالَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِجَهْلِهِمْ فِي هَذَا وَوَافَقَهُمُ الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ (?) قَاضِي الْأَنْدَلُسِ.