ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَالْهَدْيَ وَالْبُدْنَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: شعائر الله محارمه، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي حَرَّمَهَا تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَعْنِي بِذَلِكَ تَحْرِيمَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِتَعْظِيمِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْ تَعَاطِيهِ فِيهِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ وَتَأْكِيدَ اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [الْبَقَرَةِ: 217] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التَّوْبَةِ: 36] ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (?) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثلاث متواليات: ذو العقدة وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ (?) الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِهَا إِلَى آخِرِ وَقْتٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ من السَّلَفِ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ يَعْنِي لَا تَسْتَحِلُّوا القتال فِيهِ، وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (?) أيضا، وذهب الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] والمراد أشهر التسيير الأربعة، قَالُوا: فَلَمْ يَسْتَثْنِ شَهْرًا حَرَامًا مِنْ غَيْرِهِ، وقد حكى الإمام أبو جعفر الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ قِتَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَوْ قَلَّدَ عُنُقَهُ أَوْ ذِرَاعَيْهِ بِلِحَاءِ جَمِيعِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْقَتْلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُ عَقْدُ ذِمَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانٍ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحْثٌ آخَرُ لَهُ مَوْضِعٌ أَبْسَطُ من هذا.

وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ يَعْنِي لَا تَتْرُكُوا الإهداء إلى البيت الحرام، فإن فيه تعظيم شعائر اللَّهِ، وَلَا تَتْرُكُوا تَقْلِيدَهَا فِي أَعْنَاقِهَا لِتَتَمَيَّزَ بِهِ عَمَّا عَدَاهَا مِنَ الْأَنْعَامِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهَا هَدْيٌ إِلَى الْكَعْبَةِ فَيَجْتَنِبُهَا مَنْ يُرِيدُهَا بِسُوءٍ، وَتَبْعَثُ مَنْ يَرَاهَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا، فَإِنَّ مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَلِهَذَا لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ وَادِي الْعَقِيقِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ وَكُنَّ تِسْعًا، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أشعر هديه وقلده، وأهل للحج وَالْعُمْرَةِ، وَكَانَ هَدْيُهُ إِبِلًا كَثِيرَةً تُنِيفُ عَلَى السِّتِّينَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] وقال بعض السلف إعظامها استحسانها واستسمانها، قال علي بن أبي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015