بِسُورَةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} أَنَّهُ أجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعي إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمَ مِنْهَا غَيْرَ الَّذِي تَعْلَمُ. وَلِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَارَةً أُخْرَى قَوْلَهُ: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} بِالْمَوْتِ، وَتَارَةً بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتَارَةً بِالْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاؤُهُ وَمَصِيرُهُ عَلَى أَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّهِ وَإِبْلَاغِهَا إِلَى الثِّقْلَيْنِ: الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَلِأَنَّهُ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَفْصَحُ (?) خَلْقِ اللَّهِ، وَأَشْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَقَوْلُهُ: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أَيْ: قُلْ -لِمَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ -قُلْ: رُبِّي أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِي مِنْكُمْ وَمِنِّي، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ عَاقِبَةُ الدَّارِ، ولِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مذكِّرًا لِنَبِيِّهِ نِعْمَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ إِذْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} أَيْ: مَا كُنْتَ تَظُنُّ قَبْلَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ (?) إِلَيْكَ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْكَ، {إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أَيْ: إِنَّمَا نَزَلَ (?) الْوَحْيُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بِكَ وَبِالْعِبَادِ بِسَبَبِكَ، فَإِذَا مَنَحَكَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} أَيْ: مُعِينًا {لِلْكَافِرِينَ} [أَيْ] (?) : وَلَكِنْ فَارِقْهُمْ وَنَابِذْهُمْ وَخَالِفْهُمْ.
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ} أَيْ: لَا تَتَأَثَّرْ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكَ وَصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنْ طَرِيقِكَ (?) لَا تَلْوِي عَلَى ذَلِكَ وَلَا تُبَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مُعْلٍ كَلِمَتَكَ، ومؤيدٌ دِينَكَ، وَمُظْهِرٌ مَا أُرْسِلْتَ (?) بِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ: إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا تَلِيقُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَلَا تَنْبَغِي الْإِلَهِيَّةُ إِلَّا لِعَظَمَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} : إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ} [الرَّحْمَنِ: 26، 27] ، فعبر بالوجه عن الذات، وهكذا قوله ها هنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أَيْ: إِلَّا إِيَّاهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ [كَلِمَةُ] (?) لَبِيَدٍ:
أَلَا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ (?)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أَيْ: إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ،