أَرْسَلَهُمْ بِهِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ] (?) وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الْجِنِّ: 26 -28] ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِمْ، شَهِيدٌ عَلَى مَا يُقَالُ لَهُمْ، حَافِظٌ لَهُمْ، نَاصِرٌ لِجَنَابِهِمْ؛ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: 67] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } .
اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ السَّجْدَةِ الثَّانيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ: هَلْ هِيَ مَشْرُوعٌ السجودُ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عِنْدَ الْأُولَى حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضلت سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ، فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا".
وَقَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أَيْ: بِأَمْوَالِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] .
وَقَوْلُهُ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أَيْ: يَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، اللَّهُ اصْطَفَاكُمْ وَاخْتَارَكُمْ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَفَضَّلَكُمْ وَشَرَّفَكُمْ وَخَصَّكُمْ بِأَكْرَمِ رَسُولٍ، وَأَكْمَلِ شَرْعٍ.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أَيْ: مَا كَلَّفَكُمْ مَا لَا تُطِيقُونَ، وَمَا أَلْزَمَكُمْ بِشَيْءٍ فَشَقَ عَلَيْكُمْ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، فَالصَّلَاةُ -الَّتِي هِيَ أَكْبَرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ-تَجِبُ فِي الحَضَر أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ تُقْصَر إِلَى ثِنْتَين، وَفِي الْخَوْفِ يُصَلِّيهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ رَكْعَةً، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وتُصَلى رِجَالًا وَرُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا. وَكَذَا فِي النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْقِيَامُ فِيهَا يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، فَيُصَلِّيهَا الْمَرِيضُ جَالِسًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الرُّخْصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ، فِي سَائِرِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (?) : "بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة" (?) وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى، حِينَ بَعَثَهُمَا أميرَين إِلَى الْيَمَنِ: "بَشِّرا ولا