وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَعَظِّموا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظم الْأُمُورُ (?) بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: بِأَلَّا تُحَرِّمُوهُنَّ كَحُرْمَتِهِنَّ (?)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا وَلَا حَلَالَهَا حَرَامًا، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشِّرْكِ، فَإِنَّمَا النَّسِيءُ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: 37] .
وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعَكُمْ (?) {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أَيْ: جَمِيعَهُمْ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ: هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُحْكَمٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا -وَهُوَ الْأَشْهَرُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هَاهُنَا: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وَأَمَرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَظَاهِرُ السِّيَاقِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ أَمْرًا عَامًّا، فَلَوْ كان محرما ما فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَأَوْشَكَ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِانْسِلَاخِهَا؛ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ -وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ -كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ فِي شَوَّالَ، فَلَمَّا كَسَرَهُمْ وَاسْتَفَاءَ أَمْوَالَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهم، فَلَجَئُوا إِلَى الطَّائِفِ -عَمد إِلَى الطَّائِفِ فَحَاصَرَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَفْتَتِحْهَا (?) فَثَبَتَ أَنَّهُ حَاصَرَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ تَحْرِيمَ الْحَرَامِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [الْآيَةَ] (?) [الْمَائِدَةِ: 2] وَقَالَ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 194] وَقَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [الْآيَةَ] [التَّوْبَةِ: 50] (?)
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا الْأَرْبَعَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، لَا أَشْهَرُ التَّسْيِيرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّهْيِيجِ وَالتَّحْضِيضِ، أَيْ: كَمَا يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِكُمْ إِذَا حَارَبُوكُمْ فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ أَيْضًا لَهُمْ إِذَا حَارَبْتُمُوهُمْ، وَقَاتِلُوهُمْ بِنَظِيرِ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ للمؤمنين بقتال