وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فَهَذَا مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ أَيْضًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ (?) تُحَرِّمُهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ، إِلَّا طَائِفَةً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمُ: "البَسْل"، كَانُوا يُحَرِّمُونَ مِنَ السَّنَةِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، تَعَمُّقًا وَتَشْدِيدًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، [فَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى مُضَرَ، لِيُبَيِّنَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ فِي رَجَبٍ أَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ] (?) لَا كَمَا كَانَتْ تَظُنُّهُ رَبِيعَةُ مِنْ أنَّ رَجَبَ الْمُحَرَّمَ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ وَشَوَّالٍ، وَهُوَ رَمَضَانُ الْيَوْمَ، فَبَيَّنَ، عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَ] (?) السَّلَامُ، أَنَّهُ رَجَبُ مُضَرَ لَا رَجَبُ رَبِيعَةَ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْأَشْهُرُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ، ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ؛ لِأَجْلِ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَحَرُمَ قَبْلَ شَهْرِ الْحَجِّ شَهْرٌ، وَهُوَ ذُو الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْقِتَالِ، وحُرِّم شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ لِأَنَّهُمْ يُوقِعُونَ فِيهِ الْحَجَّ وَيَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَحَرُمَ بَعْدَهُ شَهْرٌ آخَرُ، وَهُوَ الْمُحَرَّمُ؛ لِيَرْجِعُوا فِيهِ إِلَى نَائِي أَقْصَى بِلَادِهِمْ آمِنِينَ، وَحَرُمَ رَجَبُ فِي وَسَطِ الْحَوْلِ، لِأَجْلِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ وَالِاعْتِمَارِ بِهِ، لِمَنْ يَقْدُمُ إِلَيْهِ مِنْ أَقْصَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَيَزُورُهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ فِيهِ آمِنًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيْ: هَذَا هُوَ الشَّرْعُ الْمُسْتَقِيمُ، مِنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا جَعَلَ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، والحَذْو بِهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْإِثْمِ مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ تُضَاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْحَجِّ: 25] وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ تَغْلُظُ فِيهِ الْآثَامُ؛ وَلِهَذَا تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا فِي حَقِّ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوْ قَتَلَ ذَا مَحْرَمٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ: فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} الْآيَةَ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فِي كلِّهن، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حَرَامًا، وعَظم حُرُماتهن، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إِنَّ الظُّلْمَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا، مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ. قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى صَفَايا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَه، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشهور رمضان والأشهر الحرم،