وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَرْضُ حَرْبٌ، وَالنَّاسُ كُفَّارٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ نُسخت الْوَصِيَّةُ وَفُرِضَتِ الْفَرَائِضُ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} هَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، أَوْ يُشْهِدَهُمَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِمَا، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيط قَالَ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ (?) هَذَا رَجُلٌ سَافَرَ وَمَعَهُ مَالٌ، فَأَدْرَكَهُ قَدَرُهُ، فَإِنْ وَجَدَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَفَعَ إِلَيْهِمَا تَرِكَتَهُ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا عَدْلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ. وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ ثَالِثٌ مَعَهُمَا اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْوَصْفَانِ: الْوِصَايَةُ وَالشَّهَادَةُ، كَمَا فِي قِصَّةِ تَمِيم الدَّارِيِّ، وعَدِيّ بْنِ بَدَّاء، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا آنِفًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ابنُ جَرِيرٍ كَوْنَهُمَا شَاهِدَيْنَ، قَالَ: لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ حُكْمًا يَحْلِفُ فِيهِ الشَّاهِدُ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى قِيَاسِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ خَاصٌّ بِشَهَادَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ، وَقَدِ اغْتُفِرَ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ مَا لَمْ يُغْتَفَرْ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا قَامَتْ قَرَائِنُ الرِّيبَةِ حَلِفَ هَذَا الشَّاهِدُ بِمُقْتَضَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} قَالَ [الْعَوْفِيُّ، عَنِ] (?) ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي، وَقَتَادَةُ، وعِكْرِمة، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَعْنِي صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي صَلَاةَ أَهْلِ دِينِهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ: أَنْ يُقَامَ هَذَانَ الشَّاهِدَانِ (?) بَعْدَ صَلَاةٍ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِيهَا بِحَضْرَتِهِمْ، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أَيْ: فَيَحْلِفَانِ (?) بِاللَّهِ {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أَيْ: إِنْ ظَهَرَتْ لَكُمْ مِنْهُمَا رِيبَةٌ، أَنَّهُمَا قَدْ خَانَا أَوْ غَلَّا فَيَحْلِفَانِ حِينَئِذٍ بِاللَّهِ {لَا نَشْتَرِي بِهِ} أَيْ: بِأَيْمَانِنَا. قَالَهُ مُقاتِل بْنُ حَيَّانَ {ثَمَنًا} أَيْ: لَا نَعْتَاضُ عَنْهُ بِعِوَضٍ قَلِيلٍ مِنَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَرِيبًا إِلَيْنَا لَا نُحَابِيهِ، {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهَا، وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهَا.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةً آللَّهِ" مَجْرُورًا عَلَى الْقَسَمِ. رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، عن عامر الشعبي.