ولكنهم أعملُوا أنفسهم في جسيم الأدبِ وأراضوها رياضةَ الأصحابِ
الصادقينَ، فطلَّقُوها عن فضولِ الشهواتِ وألزمُوها القوتَ المقلق، وجعلُوا
الجوعَ والعطشَ شِعارًا لها برهةً من الزمان، حتى انقادتْ وأذعنِت وعزفتْ
لهم عن فضولِ الحطامِ، فلمَّا ظعنَ حبُّ فضولِ الدنيا من قلوبِهم، وزايلتْها
أهواءُهم وانقعطتْ أمانِيهم وصارتِ الآخرةُ نصبَ أعينهم ومنتهى أملِهم.
ورَّثَ اللُّه قلوبَهم نورَ الحكمة، وقلَّدها قلائدَ العصمةِ، وجعلَهم دعاةً لمعالم
الدين يلمُّون منه الشعثَ، ويشعبون منه الصدعَ.
لم يلبثُوا إلا يسيرًا حتَّى جاءهم من اللهِ موعدٌ صادقٌ اختصَّ به العاملينَ له، والعاملينَ به دونَ من سواهم، فإذا سرك أن تسمعَ صفةَ الأبرارِ الأتقياءِ، فصفةُ هؤلاءِ فاستمِعْ، وشمائلَهُم الطيبةَ فاتبعْ، وإياكَ يا سوارُ وبنياتِ الطريقِ والسلامُ ".
وخرَّج أبو نُعيمٍ بإسناده عن الربيع بنِ برةَ عن الحسنِ في قولهِ تعالى: (يَا
أَيَّتهَا النَّفْسُ الْمطْمَئِنَّة) قال: "النفسُ المؤمنة اطمأنَّتْ إلى اللَّه واطمأنَّ
إليها، وأحبَّتْ لقاءَ الله، وأحبَّ لقاءهَا، ورضيتْ عن اللَّهِ ورضي عنها، فأمرَ بقبضِ رُوحِهَا، فغفرَ لها وأدخلها الجنةَ، وجعلها من عباده الصالحين ".
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن مسمع بنِ عاصم عن نعيم بنِ صبيح
السعديِّ قال:
"هممُ الأبرارِ متصلةٌ بمحبةِ الرحمنِ، وقلوبُهم تنظرُ إلى مواضع
العزِّ من الآخرةِ بنورِ أبصارِهم ".
وقال مسمعٌ: سمعتُ عابدًا من أهلِ البحرينِ يقول في جوفِ الليل:
"قرةَ عيني وسرورَ قلبي، ما الذي أسقطنِي من عينِكَ يا مانحَ العصم، ثم صرخَ وبكى، ثمَّ نادَى: طوبى لقلوبٍ ملأتْهَا خشيتُكَ، واستولتْ عليها محبّتكَ، فمحبتُكَ مانعةٌ لها من كُلِّ لذَّه غيرَ مناجاتِكَ، والاجتهادِ في خدمتكَ،