الشباب وعنفوانه. في رأسي خواطر، وفي نفسي غرور، وعلى لساني بيان واندفاع، فعرضت لي شكوك في مسألة القدر، كنت أسأل عنها العلماء، فلا أجد عندهم الجواب الشافي لها، فيدفعني الغرور إلى جدالهم وازعاجهم. حتى جاء يوم كنت فيه في المدرسة، وكنت أؤدب تلميذا بالضرب، (وكان الضرب من وسائل التأديب في تلك الأيام) ففجر الولد وتوقح، وجعل يصرخ ويقول: "هذا ظلم ... أنت ظالم ... "!!.

ثقوا يا أيها القراء، اني لما سمعت ذلك سقطت العصا من يدي، ونسيت الولد والمدرسة، ورأيت كأني كنت في ظلمة فأضيء لي مصباح منير، فقلت لنفسي: ان التلميذ يرى ضربي اياه ظلما، وأنا أراه عدلا، والعمل واحد، واذا ذهب يشكو إلى أهله قالوا له: لا ما هذا ظلم، هذا عدل، انه يضربك لمصلحتك. فاذا كان التلميذ لا يحق له أن يطبق مقاييسه الناقصة على عدالة المعلم، فكيف اطبق أنا مقاييسي البشرية للعدالة على الله.

ألا يمكن أن يكون الفعل الذي أراه ظلما هو عين العدل؟ الولد المريض يرى الإبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلما، وهي في رأي أبيه عدل كل العدل، لأن الولد نظر إلى ألمها، والأب أبصر أثرها في شفاء الولد.

ان القاضي لا يستطيع أن يحكم في دعوى حتى يطلع على مراحلها كلها، ووقائعها جميعا، ونحن انما نطلع غالبا على طرف من الواقع، ونصدر أحكاماً خاطئة، بعد دراسات ناقصة. لو تهت انت ورفيقك في الصحراء، فمرت سيارة فخمة، دعاكما صاحبها، وأركبكما فيها، فأخرج صديقك سكينه فمزق جلد المقعد، الا ترى عمله ظلماً؟ انه ظلم بلا شك، ولكن اذا علمت ان أمامك عصابة من قطاع الطريق، كلما رأوا سيارة سليمة أخذوها، وان كانت ممزقة المقعد تركوها، الا يتحول هذا الفعل في نظرك من ظلم إلى عدل؟

بل ان صاحب السيارة لوعرف هذه الحقيقة، لمزق جلد مقعدها بنفسه، لأنه يفضل أن تبقى السيارة له، ومقعدها ممزق، عن أن تذهب كلها وهي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015