والثاني: المجازُ، لغَلَبَتِه، وهو قولُ أَبِي يُوسُفَ، واخْتَارَهُ القِرَافِيُّ؛ لأنَّ الظهورَ هو المُكَلَّفُ به.
والثالثُ: يَحْصُلُ التعَارُضُ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ راجِحٌ على الآخَرِ من وجْهٍ، فإنَّ قوَّةَ الحقيقةِ قد عَارَضَها كَثْرَةُ الاسْتِعْمَالِ المَجازِيِّ، فيَتَعَادَلانِ ولا يُحْمَلُ على أَحَدِهما إلاَّ بالنِّيَّةِ، وهذا ما اخْتَارَهُ البَيْضَاوِيُّ، وتَابَعَهُ المُصَنِّفُ.
قالَ الهِنْدِيُّ: وعُزِيَ ذلك إلى الشَّافِعِيِّ، والخلافُ مَحَلُّه إذا كانَتْ الحقيقةُ غيرَ مهجورةٍ، كما لو قالَ: لأَشْرَبَنَّ من ماءِ هذا النَّهَرِ، فهو حقيقيةٌ في الكَرْعِ بفِيهِ، وإذا اغْتَرَفَ بإنَاءٍ وشَرِبَ فمجازٌ، والحقيقةُ قد تُرَادُ؛ لأنَّ كثيراً من الرُّعاءِ، وغيرُهم يَكْرُعُ بفِيهِ، أمَّا إذا كانَتْ الحقيقةُ مهجورةٌ لا تُرَادُ في العُرْفِ، فلا خِلافَ بينَ أَبِي حَنِيفَةَ وأَبِي يُوسُفَ في تقديمِ المَجازِ؛ لأنَّه إمَّا حَقِيقَةٌ شرعيَّةٌ كالصلاةِ، أو عُرْفِيَّةٌ كالدابَةِ، وهما مُتَقَدِّمانِ على الحقيقةِ اللغويَّةِ.
وقالَ الرَّافِعِيُّ في (كتابِ الإيمانِ): المجازُ المُتعارَفُ يُقَدَّمُ على الحقيقةِ البعيدَةِ، كما لو حَلِفَ لا يَاكُلُ من هذه الشَّجَرَةِ، فإنَّ اليمينَ تُحْمَلُ على الأكْلِ من ثَمَرِها دونَ الورَقِ والغُصونِ، بخلافِ ما لو حَلِفَ لا يَاكُلُ من هذه الشاةِ، فإنَّ اليمينَ تُحْمَلُ على لَحْمِها ولَبَنِها ولَحْمِ وَلَدِها؛ لأنَّ الحقيقةَ مُتَعارَفَةٌ.
ص: وثبوتُ حُكْمٌ يُمْكِنُ كونُه مُراداً من خِطابٍ، لكنَّ مجازاً لا يَدُلُّ على أنَّه المرادُ منه، بل يَبْقَى الخِطابُ على حَقِيقَتِه، خلافاً للكَرْخِيِّ والبَصْرِيِّ.