الثابت به مرجعه إليهما، والقياس إنما هو إلحاق فرع على أصل متفق على حكمه، أما المصالح المرسلة: فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة، ولا يوجد دليل معين على عينها، فانتفاء الدليل على العمل بالمصالح المرسلة دليل على انتفاء العمل بها، وهذا الدليل حكاه إمام الحرمين عن القاضي الباقلاني.
الجواب: إن القول بانتفاء الدليل عن المصالح المرسلة غير مسلم، لأن هذه المصالح وإن لم يرد بشأنها دليل بعينه من نص أو إجماع أو ليس لها نظير تقاس عليه، إلا أنها مستندة إلى ما هو معتبر، بل ربما كان ما تستند إليه أكثر قوة وقطعية من الدليل المعين، قال الغزالي: وكون هذه المعاني عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة.
ثالثاً: أنه لو صح اتباع كل مصلحة مرسلة والاعتماد عليها في بناء الأحكام، لترتب عليه أن العاقل ذا الرأي العالم بوجوه سياسات الخلق، وتدبير شؤون الحكم ممن ليس من أولي الحكم الشرعي، إذا راجع المفتين في حادثة، وأعلموه أنها ليست منصوصة ـ أي: لم يرد فيها نص بالاعتبار أو الإلغاء ـ ولا أصل لها يضاهيها فتقاس عليه ـ لساغ له حينئذ العمل بالأصوب عنده، ولتجرأ على الفتوى فيها، وهذا أمر باطل، لأنه يحكم بما ليس له به علم، وهو منهي عنه في قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وإحكام الحكماء، وهو غير مسلم.
ولترتب على ذلك أن تصير الشريعة فوضى بين ذوي الأهواء، ومن ليس أهلاً للاجتهاد، للانطلاق من أحكام الشريعة وإيقاع الظلم بأهلها باسم المصلحة، فيطلقون المصلحة ولا يتقيدون بالمشروع منها، وإطلاق المصلحة لم يقل به أحد، قال ابن حزم: وهذا باطل لأنه اتباع الهوى وقول بلا برهان.