فقال لها أفي هذا المكان يقال هذا قالت ألست ظريفاً قال بلى قالت هل تروي الشعر قال نعم قالت أما سمعت قولهم:

بيض غرائر ما همهن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام

يحسبن من لين الكلام زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الاسلام

واستحضر الرشيد الرقاشي ومصعباً وأبا نواس فقال أجيزوا كلام الليل يمحوه النهار البيت الذي قالته الجارية التي لقيها بعد غضبه عليها فسألها الوصل فوعدته إلى وقت فلما جاء أنشدته المصراع المذكور فقال الرقاشي ومصعب أبياتاً لم تناسب المقام وأنشد أبو نواس.

وليلة أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار

وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التخميش وانحل الازار

وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمان صغار

فقلت الوعد سيدتي فقالت ... كلام الليل يمحوه النهار

فقال له كأنك كنت حاضراً معنا وأمر له بعشرة آلاف درهم ولكل من الآخرين بخمسة وأرق الرشيد ليلة فقام يمشي في المقاصير فرأى جارية لطيفة الشكل بديعة المنظر فأيقظها فقالت وقد علمت به يا أمين الله ما هذا الخبر فقال:

هو ضيف طارق حكيم ... يرتجي المأوى إلى وقت السحر

فقالت

بسرور سيدي أخدمه ... إن رضي بي وبسمعي والبصر

فلما أصبح أحضر أبا نواس وقال له أجز يا أمين الله ما هذا الخبر فأنشد:

طال ليلي حين وافاني السهر ... فتفكرت فأحسنت الفكر

قمت أمشي في مكاني ساعة ... ثم أخرى في مقاصير الحجر

وإذا وجه جميل حسن ... زانه الرحمن من بين البشر

فلمست الرجل منها موقظاً ... فرنت نحوي ومدت لي البصر

وأشارت وهي لي قائلة ... يا أمين الله ما هذا الخبر

قلت ضيف طارق حكيم ... يرتجي المأوى إلى وقت السحر

فأجابت بسرور سيدي ... أخدم الضيف بسمعي والبصر

فقال له أكنت معنا قال لا ولكن ألجاني الشعر إلى ذلك فأحسن صلته.

فصل في النوادر والحكم

نادرة

قال إسحق غنيت الرشيد ليلة حتى نام فجلست أنتظر انتباهه والعود في يدي وإذا بشاب على أجمل ما يكون من الهيآت قد دخل علي فأصلح العود بعدما شرب وأنشد:

ألا غنيا لي قبل أن نتفرقا ... وهات اسقني صرفاً شراباً مروقا

فقد كاد ضوء الصبح أن يفضح الدجى ... وكاد قميص الليل أن يتمزقا

ثم قال هكذا غن الخلفاء وغاب وقد ذهب عقلي من حسن غنائه فلما أفاق الرشيد قصصت عليه القصة وعنيته الصوت فأحسن صلتي وقال ليته متعنا بغنائه ولم يرنا شخصة قال إسحق فذكرت بهذه ما حكاه لي أبي أنه استوهب الخليفة يوماً يخلو به مع أهله فوهبه السبت لأنه كان يستثقله فخلا إبراهيم يوماً وقد زين بيته وحرمه وأتقن طعاماً وشراباً وأوصى بحفظ الأبواب خوفاً من أحد يدخل فبينما هو جالس على أحسن ما يكون إذا بشيخ عليه قلنسوة وثياب ناعمة وبيده عكازة وقد عبقت رائحة الطيب منه فسلم بلطف ثم جلس قال إبراهيم فكدت أقضي فروضت نفسي فذاكرني الأدب وأيام العرب حتى ظننت أن غلماني حيوني به لما رأوا من ظرفه ثم قال بعدما أبى من الطعام وأخذ شيئاً من الشراب هل لك أن تغني شيئاً مما ألفت به فتشجمت المشقة وغنيت فقال أحسنت يا إبراهيم فزاد غضبي ثم استأذنني في الغناء فأذنت له متعجباً من تجرية بحضرتي فأصلح العود وأنشد:

ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها عبداً ليست بذات قروح

أباها على الناس أن يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح

أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب جريح

ثم غير الصوت وغنى

ألا يا حمامات اللون عدن عودة ... فإني إلى أصواتكن حزين

فعدن فلما عدن كدت يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبين

دعون بترداد الهدير كأنما ... شربن حميا أو بهن جنون

فلم تر عيني مثلهن حمائماً ... بكين ولم تدمع لهن عيون

طور بواسطة نورين ميديا © 2015