واستيقانها شرف ذاتها وقوامها لا بغيرها واستغناءها عن المادّة بعد إحاطتها بخساستها وعدم البقاء في صورها والمحصول في محسوسها والخبر في ملاذّها فتعرض عنها وينحلّ الرباط وينقصم الاتّصال ويقع الفرقة والانفصال والعود إلى المعدن فائزة من سعادة العلم بمثل ما يأخذه السمسم من العدد والأنوار فلا يفارق دهنه بعد ذلك ويتحد العاقل والمعقول ويصير واحدا. وحقيق علينا أن نورد من كتبهم شيأ من صريح كلامهم في هذا الباب وما يشبهه من كلام غيرهم فيه، قال «باسديو» «لارجن» يحرضه على القتال وهما بين الصفّين: إن كنت بالقضاء السابق مؤمنا فاعلم أنّهم ليسوا ولا نحن معا بموتى ولا ذاهبين ذهابا لا رجوع معه فإنّ الأرواح غير مائتة ولا متغيّرة وإنّما تتردّد في الأبدان على تغاير الإنسان من الطفولة إلى الشباب والكهولة ثمّ الشيوخة التي عقباها موت البدن ثمّ العود، وقال له: كيف يذكر الموت والقتل من عرف أنّ النفس أبديّة الوجود لا عن ولادة ولا إلى تلف وعدم بل هي ثابتة قائمة لا سيف يقطعها ولا نار تحرقها ولا ماء يغصّها ولا ريح تيبّسها لكنّها تنتقل عن بدنها إذا عتق نحو آخر ليس كذلك كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق فما غمّك لنفس لا تبيد ولو كانت بائدة فأحرى أن لا تغتمّ لمفقود لا يوجد ولا يعود فإن كنت تلمح البدن دونها وتجزع لفساده فكلّ مولود ميّت وكلّ ميّت عائد وليس لك من كلي الأمرين شيء إنّما همنا إلى الله الذي منه جميع الأمور وإليه تصير، ولمّا قال له «ارجن» في خلال كلامه: كيف حاربت براهم في كذا وهو متقدّم للعالم سابق للبشر وأنت الآن فيما بيننا منهم معلوم الميلاد والسنّ؟ إجابة وقال: أمّا قدم العهد فقد عمّني وإيّاك معه فكم مرّة حيينا معا قد عرفت أوقاتها وخفيت عليك وكلّما رمت المجيء للإصلاح لبست بدنا إذ لا وجه للكون مع الناس إلا بالتأنّس؛ وحكى عن ملك أنسيت اسمه أنّه رسم لقومه: أن يحرقوا جثّته بعد موته في موضع لم يحرق فيه ميّت قطّ، وإنّهم طلبوا موضعا كذلك فأعياهم حتى وجدوا صخرة من ماء البحر ناتية فظنّوا أنّهم ظفروا بالبغية، فقال لهم «باسديو» : إنّ هذا الملك أحرق على هذه الصخرة مرّات كثيرة فافعلوا ما تريدون