الإيمان أولاً:

إذا ما شخَّصنا حالنا مع القرآن، وبحثنا عن السبب الرئيس لهذا الوضع الشاذ لوجدناه - كما أسلفنا - نابعًا من ضعف الإيمان بقيمة القرآن وقدرته الفذة على إنشاء الإيمان وإحداث التغيير.

ومما يؤكد هذا المعنى قول عبد الله بن عمر:

لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتي الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأيت اليوم رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره، ولا زاجره، وما ينبغي أن يوقف عنده، وكل حرف ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي، وتتعظ بمواعظي.

وفي رواية: فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ولا يدري ما آمره، وما زاجره، وما ينبغي أن يوقف عنده ينثر نثر الدقل (?).

يقول الدوسري: فالإيمان الذي أشار إليه ابن عمر رضي الله عنه (وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن .. ) هو الإيمان بأن القرآن إنما أُنزل لتدبر آياته والعمل بما فيه.

وذلك الإيمان هو الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم لتحقيق النصيحة لكتاب الله على ذلك الوجه، فكانوا فور نزول السورة أو الآية يبادرون لتعلمها والعمل بها، كما قال ابن عمر في حديثه السابق: وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن نقف عنده منها.

وأفاد قول ابن عمر أيضًا: أن سبب التقصير في العمل بكتاب الله يرجع إلى عدم تمكن ذلك الإيمان من القلوب (ولقد رأيت رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره .. ) (?) فالصحابة حين أوتوا الإيمان بقيمة القرآن (لم يكونوا يقرؤونه بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع .. لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة فحسب .. وإنما كان يتلقى القرآن ليعرف أمر الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته .. يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه) (?).

نقطة البداية الصحيحة:

إن الإيمان بقيمة الشيء - أي شيء - هو الذي يولد الانبهار به، والاستسلام له، وفتح منافذ الاستماع والتلقي منه، و العكس صحيح فعدم الإيمان بالشيء يدفع لإغلاق منافذ الاستماع له، وعدم الاكتراث به.

بمثل هذا تحدث عيسى عليه السلام لبني إسرائيل: { ... قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49].

أرأيت أخي القارئ بماذا ختمت الآية؟!

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}، فإن لم تكونوا مؤمنين بي كرسول فلن تستقبلوا هذا الآيات استقبالا صحيحًا.

ونفس الأمر بالنسبة للقرآن فإن لم يزدد الإيمان بقيمة القرآن، وبالهدف من نزوله، وبأنه قادر - بإذن الله - على انتشالنا من الوحل الذي نغوص فيه.

إن لم يحدث هذا فإن أي كلام يقال عن تدبر القرآن، والتمهل في حفظه، وضرورة التخلق بأخلاقه لن يجد الاستجابة الكافية في نفوس مستمعيه ..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015