فالقرآن له قوة تأثير ضخمة على القلوب لا يناظره فيها مصدر آخر وكيف لا، وهو كلام رب العالمين الذي إذا استقبلته الجبال الرواسي لتصدعت واندكت من قوة تأثيره عليها {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ} [الحشر: 21].
فإن كان الإيمان للقلب كالروح للبدن، فإن القرآن يمثل العمود الفقري
لهذا الإيمان؛ لذلك ليس عجبا أن يُسمى القرآن بالروح: +وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا
مِّنْ أَمْرِنَا" [الشورى: 52].
يقول مونتاي: إن مثل الفكر العربي الإسلامي المبعد عن التأثير القرآني كمثل رجل أفرغ من دمه (?).
إن القرآن - كما يقول محمد إقبال- ليس بكتاب فحسب .. إنه أكثر من ذلك، إذا دخل القلب تغير الإنسان وإذا تغير الإنسان تغير العالم (?).
ويكفيك لتأكيد هذا المعنى ما حدث مع الجيل الأول حينما أحسنوا التعامل مع القرآن، وحين استقبلته قلوبهم الاستقبال الصحيح فكانت النتيجة السريعة المذهلة ... سيادة الأرض في سنوات قليلة.
فإن كان التحقق بالإيمان والربانية هو أهم صفات جيل التمكين، فليس عجبًا أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم قد تحققت فيهم هذه الصفة على خير ما يكون، وكان السبب الرئيس في هذا هو القرآن، ولقد تحدث الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في هذا الأمر كثيرًا في كتاباته، ومن ذلك ما قاله في آخر كتبه - مقومات التصور الإسلامي:
«لقد كنت وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله - سبحانه - وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم، فلا أكاد أدرك كيف تم هذا؟!
كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم، ولكني لم أكن أدرك كيف تم هذا حتى عدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه الأصيل: تجليه حقيقة الألوهية وتعبيد الناس لها وحدها بعد أن يعرفوها.
وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله!
أدركت - ولا أقول أحطت - سر الصناعة!
عرفت أين صُنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صنع!
إنهم صُنعوا ها هنا! صنعوا بهذا القرآن! بهذا المنهج المتجلى فيه! بهذه الحقيقة المتجلية في هذا المنهج! حيث تحيط هذه الحقيقة بكل شيء، وتغمر كل شيء، ويصدر عنها كل شيء، ويتصل بها كل شيء! وتكيف بها كل شيء .. بهذا كله وجدت - في الأرض وفي دنيا الناس .. حقيقة «الربانية» متمثلة في أناس من البشر.
وُجد «الربانيون» الموصولون بالله، العائشون بالله، ولله، والذين ليس في قلوبهم وليس في حياتهم إلا الله.
وحينما وجدت حقيقة «الربانية» هذه في دنيا الناس، ووجد الربانيون الذين هم الترجمة الحية لهذه الحقيقة .. حينئذ انساحت الحواجز الأرضية، والمقررات الأرضية، والمألوفات الأرضية .. ودبت هذه الحقيقة على الأرض .. وصنع الله ما صنع في الأرض وفي حياة الناس بتلك الحفنة من العباد.
وبطلت الحواجز التي اعتاد الناس أن يروها تقف في وجه الجهد البشري وتحدد مداه، وبطلت المألوفات التي يقيس بها الناس الأحداث والأشياء .. ووجد الواقع الإسلامي الجديد، وولد معه الإنسان الحقيقي الجديد» (?) ..