وللشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - كلام دقيق يؤكد هذا المعنى، فيقول في كتاب «كيف نتعامل مع القرآن؟»: «حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعى الدراسة المتعمقة، ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، واتقان الغُنن والمُدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا، أداءً وأحكامًا -أقصد أحكام التلاوة- لكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم، صنعوا شيئًا ربما لم تصنعه الأمم الأخرى .. فإن كلمة «قرأت» عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها، تعني: أن رسالة جاءته أو كتابًا وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه .. فمن حيث الدلالة لا أجد فكاكًا بين الفهم والقراءة، أو بين السماع والوعي.
أما الأمة الإسلامية، فلا أدري بأية طريقة فصلت بين التلاوة، وبين التدبر، فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة، كما يقولون، وكأن ترديد الألفاظ دون حس بمعانيها، ووعي لمغازيها، يفيد أو هو المقصود.
وعندما أحاول أن أتبين الموقف في هذا التصرف، أجد أنه مرفوض من الناحية الشرعية، ذلك أن قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29] يعني: الوعي والإدراك والتذكر والتدبر .. فأين التدبر؟ وأين التذكر مع تلك التلاوة السطحية التي ليس فيها أي إحساس بالمعنى، أو إدراك للمقصد» (?) ..
* * *
كان صلى الله عليه وسلم يحرص على عدم انشغال الصحابة بغير القرآن حتى يتمكن القرآن في القيام بعمله على أكمل وجه ..
وتوفى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ترك جيلاً عظيمًا تفخر به البشرية حتى الآن ..
ولقد كان أبناء هذا الجيل حريصون على تبليغ نفس الرسالة لمن بعدهم، ولقد مر علينا سابقًا الكثير من المواقف التي تؤكد هذا المعنى ..
ولكن بعد أن اتسعت الفتوحات، واختلط المسلمون بالأجناس الأخرى وبما كانوا يحملونه من ثقافات حدث الانبهار بها والتفكير في نقلها وأسلمتها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الانشغال بتدوين الحديث، وتتبع رجاله استنفذ جهدا عظيمًا من الأجيال التالية لجيل الصحابة.
هذا العمل العظيم الذي قام به هؤلاء العلماء الصالحون كان ضروريًا لحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان من الأولى ألا يكون هذا العمل على حساب القرآن، بمعنى أن يسير الاهتمام بالحديث وتدوينه جنبًا إلى جنب مع الاهتمام بالقرآن كمصدر متفرد للهداية والتغيير، ولكن لم يحدث هذا على الوجه المطلوب، وبدأ دور القرآن يتراجع قليلاً في النفوس، ولقد تعالت صيحات من بينهم تنبههم لضرورة التوازن، حتى لا يكون الاهتمام بالحديث على حساب القرآن، ومن ذلك ما قاله الإمام الشعبي لأصحاب الحديث:
يا قوم! إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن (?).
وليت الأمر قد اقتصر على الاهتمام بالسنة، فالسنة هي صنو القرآن، وشارحة لما أجمل فيه، والذي يهتم بها اهتمامًا صحيحًا فسيجدها تدعوه دومًا إلى الانتفاع الحقيقي بالقرآن.
وليت الأمر قد اقتصر كذلك على العلوم التي استقاها العلماء من الكتاب والسنة والتي تُعرف الناس بربهم وبالطريق الموصل لبلوغ رضاه وجنته، وبأحكامه التي افترضها عليهم، وبما ينفعهم وبما يضرهم في الدارين.