تأمل معي هذا الحديث النبوي الذي يربط بين الأمرين .. بين قيمة القرآن، وبين ثواب قراءته. عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم. إن هذا حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوجُّ فيُقوَّم، ولا يزيغ فيُستعتب، ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد. فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول الم، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر» (?).

ولأن الهداية لن تحدث إلا بفهم المراد من الخطاب كان الأمر بتدبر القرآن لتحقيق المقصود من نزوله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29].

ولأن البعض قد لا يتيسر له وجود المصحف بجواره في كل الأوقات، ولأن الصلاة تتطلب قراءة القرآن كانت فضيلة حفظه .. كله أو بعضه.

إذن فهي منظومة متكاملة من الوسائل التي شُرِعت، وندب إليها لتحقيق الهدف العظيم من نزول القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

فكثرة قراءة القرآن، وتعلم أحكام تلاوته، وترتيله، وحفظ آياته، وتدبره، وقراءته بصوت مسموع وحزين .. كل هذه وسائل لتحقيق الهدف.

معنى ذلك أن أهل القرآن هم أهل الانتفاع به، والوصول من خلاله إلى الهدف الذي أنزل من أجله.

من هنا ندرك كلام ابن القيم: أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم (?).

ماذا يحدث لو نُسى الهدف؟!

فإذا ما نُسى الهدف من نزول القرآن، وبالتالي لم يحدث ربط الوسائل بهذا الهدف، فمن المتوقع أن يتعامل الكثير مع النصوص الواردة في فضل وأهمية «الوسائل» (كفضل القراءة والترتيل والحفظ وقراءة الليل .. ) على أنها «غايات» و «أهداف».

فيُصبح هم المرء حفظ القرآن كهدف ومن ثم لا يُعطي اهتمامًا يُذكر للقراءة المتأنية الواعية المدركة لمعاني الآيات فضلاً عن التأثر بها.

وينصرف الهم كذلك إلى تحصيل أكبر قدر من الحسنات من خلال القراءة السريعة، وينصرف الهم أيضًا إلى استغراق الأوقات في تعلم أحكام الترتيل والتعمق فيها، والتشديد على المتعلمين في أمور قد لا تكون أساسية في الترتيل.

كل ذلك وغيره من المتوقع أن يحدث لو نُسى الهدف من نزول القرآن ..

ولقد حدث ذلك بالفعل .. نعم، لم يحدث ذلك بين يوم وليلة، بل بدأ نسيان الهدف من نزول القرآن يحدث بالتدريج بعد الجيل الأول.

يقول عبد الله بن مسعود: أُنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا دراسته عملا!!

إن أحدكم ليقرأ من فاتحته إلى خاتمته ما يُسقط منه حرفا، وقد أسقط العمل به (?).

ويقول الحسن البصري: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملا، فأنتم تركبونه وتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار (?).

وخير توصيف للحال مع القرآن حين ينُسى الهدف من نزوله قول الحسن البصري:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015