وفي نفس الوقت فلأنه لا يمكن لأحد أن يهتدي بهدى القرآن ويتأثر به، ويكون له بمثابة البشير، والنذير، والهادي، والنور، والروح، والتذكرة، والتبصرة .. إلا إذا تعلم اللغة العربية كلغة تخاطب يفهم خطابها وألفاظها فهما عاما؛ كان تعلم هذا القدر من اللغة ضروري للأعجمي لفهم خطاب القرآن المباشر له، ولو فهما إجماليًا ..

يقول الإمام ابن تيمية: إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (?).

ومما لا شك فيه أن عاقل مهما كان مستوى علمه وإدراكه محدودًا يستطيع - إذا ما أعمل عقله فيما يقرأ أو يسمع من آيات - أن يفهم الخطاب القرآني بدرجة ما ..

هذه الدرجة تمكنه - بعون الله - من بلوغ الهداية القرآنية، وهذا من صور

إعجاز القرآن، أن يسر الله فهمه للجميع، كلٌ على قدره مستواه +وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ" [القمر: 17].

لذلك فإن بلوغ الهداية من القرآن، والتأثر بمعانيه، ومن ثم الانتفاع الحقيقي به، في وسع وطاقة أي عاقل مهما كان مستوى إدراكه.

يقول الإمام محمد عبده: يجب على كل واحد من الناس أن يفهم آيات الكتاب بقدر طاقته، لا فرق بين عالم وجاهل. يكفي العامي من فهم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] ما يعطيه الظاهر من الآيات، وأن الذين جُمعت أوصافهم في الآيات الكريمة لهم الفوز والفلاح عند الله تعالى (?).

ويقول: ومن الممكن أن يتناول كل أحد من القرآن بقدر ما يجذب نفسه إلى الخير، ويصرفها عن الشر، فإن الله تعالى أنزله لهدايتنا وهو يعلم منا كل أنواع الضعف الذي نحن فيه (?).

تفسير لا يعذر أحد بجهالته:

ومما يؤكد هذا المعنى ما قاله ابن عباس رضي الله عنه:

تفسير القرآن على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى (?).

فالوجه الأول: كما يقول د. يوسف القرضاوي، والذي تعرفه العرب من كلامها: أن القرآن نزل بلسان العرب، وهو ما جاء على معهود كلامهم من الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية .. فالعرب تعرف القرآن من خلال معرفتها بأسلوب كلامها وطرائقه.

الوجه الثاني: (لا يعذر أحد بجهالته): هو ما كان واضحًا بحيث يتبادر إلى الأذهان معرفته، دون حاجة إلى كد الذهن، وإجهاد العقل.

الوجه الثالث: (تفسير يعلمه العلماء): ما لا يعرفه إلا أهل العلم، مما يحتاج إلى استنباط وتدقيق ومعرفة بعلوم أخرى، حتى يحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص ..

الوجه الرابع: ما لا يعلمه إلا الله: مثل شؤون الغيب، التي لا يعلم حقائقها إلا الله سبحانه، كأحوال البرزخ، وأمور الآخرة، وموعد قيام الساعة (?) ...

وعلق الإمام الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن) على قول ابن عباس في تقسيم التفسير إلى أربعة أنواع فقال:

هذا تقسيم صحيح.

فأما الذي تعرفه العرب فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك اللغة والإعراب.

فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها، ومسميات أسمائها، ولا يلزم ذلك القارئ.

وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه، ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم، ويسلم القارئ من اللحن (?) ..

طور بواسطة نورين ميديا © 2015