ويقول: إنما اتسع الناس في كَتْب العلم، وعوَّلوا على تدوينه في الصحف، بعد الكراهة لذلك، لأن الروايات قد انتشرت، والأسانيد طالت، والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا ..

وقال النووي: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف (?).

وقال ابن حجر العسقلاني: السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يَبعُد وجوبه على من خشى النسيان ممن يتبين عليه تبليغ العلم (?).

ولكن هل من كلمة سواء في هذا الموضوع؟!

بلا شك أنه لا يمكن الاستغناء بالقرآن عن السنة، وكيف يكون هذا والله عز وجل يقول لرسول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

ويقول للمسلمين جميعًا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

(فالحديث هو الذي تولى بيان ما أُجمل من القرآن، وتفصيل أحكامه، ولولاه لم نستطع أن نعرف الصلاة والصيام، وغيرهما من الأركان والعبادات على الوجه الذي أراده الله تبارك وتعالى، وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب) (?).

ونؤكد أيضًا على ضرورة تقييد العلم بالكتابة حتى لا تختلط الروايات، وتتداخل العبارات وغير ذلك من المفاسد الكثيرة ..

فلا بد من كتابة الحديث والعناية به، متنا، وسندا، وشرحا. ولكن أليس من الطبيعي أن يكون الاهتمام بالقرآن أولاً ثم بالسنة ثانيًا؟!

ولا بد كذلك من كتابة العلم، والانتفاع بآراء العلماء وجهودهم الفكرية، ولكن أليس الاهتمام بالقرآن - لفظا ومعنى - يسبق ذلك.

فمع كل ما قيل عن أسباب عدم تقييد العلم في البداية - وهي أسباب صحيحة - إلا أن أحد أهم الحِكم من ذلك هو خوف الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته من بعده على انشغال المسلمين بغير القرآن كمصدر متفرد للتغيير والتقويم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أعلم الناس بقدر القرآن، وبأنه لا يقوم مقامه شيء آخر في عمله داخل الإنسان، وكان يخشى من الانشغال بغيره حتى لا يفقد القلب أهم مصدر لإنشاء الإيمان وإحداث التغيير.

وكذلك كان الصحابة يدركون أهمية القرآن، ويخشون من الاهتمام بغيره، مع حرصهم على تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بها.

ومما يدعو للأسف أنه قد حدث ما كان يخشاه الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته من بعده، فكان انجذاب الأجيال اللاحقة نحو العلم وفروعه على حساب الاهتمام بالقرآن من حيث كونه مصدرا للهداية والشفاء.

يقول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله-:

هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث ..

ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة ..

ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين.

وكان تطور الفكر الإسلامي على هذا النحو وبال على الإسلام وأهله .. روى ابن عبد البر عن الضحاك بن مزاحم:

يأتي على الناس زمان يُعلق فيه المصحف حتى يعشش عليه العنكبوت، لا ينتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث (?) ..

وعن بشر الحافي قال: سمعت أبا خالد الأحمر يقول: يأتي زمان، تُعطَّل فيه المصاحف، يطلبون الحديث والرأي، فإياكم وذلك فإنه يُصفِّقُ الوجه، ويَشغل القلب، ويُكثر الكلام (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015