(ومن الأسباب كذلك) خوف اختلاط بعض أقوال النبي الموجزة الحكيمة بالقرآن، سهوا من غير عمد، وذلك خطرٌ على كتاب الله يفتح باب الشك فيه لأعداء الإسلام، مما يتخذونه ثغرة ينفذون منها إلى المسلمين لحملهم على التحلل من أحكامه، والتفلت من سلطانه .. كل ذلك وغيره- مما توسع العلماء في بيانه - من أسرار عدم تدوين السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (?)، وبهذا نفهم سر النهي عن كتابتها الواردة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه».
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته بتبليغ السنة إلى من وراءهم «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فحفظها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (?).
وشدد عليهم في التثبت فيما يرون «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع» (?).
فلم يكن بدٌ من أن يصدع الصحابة بالأمر ويبلغوا أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وخصوصا وقد تفرقوا في الأمصار، وأصبحوا محل عناية التابعين والرحلة إليهم، فكان التابعون يتتبعون أخبارهم ومواطنهم فيرحل إليهم من يرحل على بُعد المشقة وعناء الأسفار.
هذا كله كان عاملا في انتشار الحديث وانتقاله بين المسلمين (?).
(ومهما يكن من إكثار بعض الصحابة التحديث عن رسول الله، فقد كان ذلك قليلا في عصري الشيخين أبي بكر وعمر، إذ كانت خطتها حمل المسلمين على التثبت من الحديث من جهة، وحمل المسلمين على العناية بالقرآن أولاً (?) ..
فقد كانت رغبة عمر رضي الله عنه ألا يكثروا من التحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام كي لا ينشغل الناس بالحديث عن القرآن، والقرآن غض طرى. فما أحوج المسلمين إلى حفظه وتناقله، والتثبت فيه، والوقوف على دراسته!!
روى الشعبي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى (صرار)، فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟
قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا.
فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوىٌّ بالقرآن كدوى النحل، فلا تصدوهم بالحديث فتشغلوهم، جردوا القرآن وأقِلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة بن كعب قالوا: حَدَّثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب (?).
ويعلق الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - على هذا الأمر فيقول:
فعمر وغيره من الأئمة لا يجحدون السنة، ولكنهم يريدون إعطاء القرآن حظه الأوفر من الحفاوة والإقبال، وذلك هو الترتيب الطبيعي، فلا بد من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض في شروح وتفاصيل لبعض أجزائه (?).
أما بخصوص تقييد العلم وكتابته وتخوف الصحابة من ذلك - كما مر علينا - فيقول الخطيب البغدادي:
فقد ثبت أن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنا عليها.