الدليل الدامغ:

ومع كل مظاهر التأثير القرآني السابق ذكرها، إلا أن أهم مظهر لقوة تأثير المعجزة القرآنية هوالتحول العظيم الذي حدث لجيل الصحابة، والتغيير الجذري الذي حدث لهم بعد إسلامهم ...

هذا الجيل الذي يمثل نموذجًا لأمة العرب، والتي كانت قبل الإسلام في ذيل الأمم من حيث التقدم والحضارة وامتلاك أسباب القوة والمنعة، وكان أفرادها يغرقون في الظلام والتخلف والجاهلية، وكان حالهم أسوأ بكثير من حالنا الآن، وكيف لا، وقد كانوا يقومون بأفعال لو حدثت بيننا لقامت الدنيا ولم تقعد، ويكفيك في تأكيد هذا المعنى تلك القصة:

فقد لاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أصحابه يلازمه الغم فقال له: «ما لك تكون محزونا؟».

فقال: يا رسول الله، إني قد أذنبت في الجاهلية ذنبا فأخاف أن لا يُغفر لي وإن أسلمت، فقال عليه الصلاة والسلام: «أخبرني عن ذنبك؟» فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فوُلدت لي بنت فشفعت إلىَّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، فصارت من أجمل النساء فخطبوها فدخلت علىَّ الحمية، ولم يتحمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسُرَّت بذلك وزينتها بالثياب والحُلل، وأخذت علىَّ المواثيق بأن لا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر، ففطنت الجارية بأني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول: يا أبي أي شيء تريد أن تفعل بي؟

فرحمتها ثم نظرت في البئر فدخلت علىَّ الحميِّة، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبي لا تضيع أمانة أمي، فجعلت مرة أنظر إلى البئر، ومرة أنظر إليها وأرحمها، وغلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبي قتلتني، فمكثت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت.

فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لو أُمرت أن أعاقب أحدًا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك» (?).

أمة عجيبة:

لقد كان العرب قبل الإسلام يعبدون الحجارة، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام ويسيؤون الجوار، ويأكل القوى منهم الضعيف.

يقول أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه: «كنا في الجاهلية نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا أَخْيَر منه، ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به» (?).

هذه - أخي- نماذج لما كان عليه الجيل الأول قبل الإسلام .. هذا الجيل بهذه الحالة، حين أحسن أفراده استقبال القرآن، والتعرض الصحيح له؛ أحسن القرآن وفادتهم وقام بعمله خير قيام معهم، وأخرجت مدرسته جيلاً فريدًا وبأعداد كبيرة، فانتقلت أمتهم متوثبة من الساقة إلى المقدمة وذلك في سنوات معدودة ..

يقول - محمد الغزلي- رحمه الله:

والأمة التي نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها، هي المعجزة التي تشهد للنبي عليه الصلاة والسلام بأنه أحسن بناء الأجيال، وأحسن تربية الأمم، وأحسن صياغة جيل قدم الحضارة القرآنية للخلق .. فنحن نرى أن العرب عندما قرأوا القرآن، تحولوا تلقائيًا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد .. إلى أمة يسودها العدل الاجتماعي ولا يُعرف فيها نظام الطبقات .. إلى أمة تكره التفرقة العنصرية، وتكره أخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015