وَلما كَانَ مُفَارقَة كل مُعْتَاد ومألوف بالانتقال عَنهُ شَدِيدا على من رامه وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ الِانْتِقَال دفْعَة وَاحِدَة فالجنين عِنْد مُفَارقَته للرحم ينْتَقل عَمَّا قد أَلفه واعتاده فِي جَمِيع أَحْوَاله دفْعَة وَاحِدَة وَشدَّة ذَلِك الِانْتِقَال عَلَيْهِ أَكثر من شدَّة الِانْتِقَال بالتدريج
وَلذَلِك قَالَ بقراط قد يعلم بِأَهْوَن سعي وأيسره أَن التَّدْبِير الرَّدِيء من الْمطعم وَالْمشْرَب إِذا كَانَ يجْرِي مَعَ رداءته على أَمر وَاحِد يشبه بعضه بَعْضًا دَائِما فَهُوَ أوثق وأحرز وَأبْعد عَن الْخطر فِي التمَاس الصِّحَّة للأبدان من أَن ينْقل الرجل تَدْبيره دفْعَة وَاحِدَة إِلَى غذَاء أفضل مِنْهُ فالجنين ينْتَقل عَمَّا أَلفه واعتاده فِي غذائه وتنفسه ومداخله وَمَا يكتنفه وهلة وَاحِدَة
وَهَذِه أول شدَّة يلقاها فِي الدُّنْيَا ثمَّ تتوافر عَلَيْهَا الشدائد حَتَّى يكون آخرهَا الشدَّة الْعُظْمَى الَّتِي لَا شدَّة فَوْقهَا أَو الرَّاحَة الْعُظْمَى الَّتِي لَا تَعب دونهَا وَلذَلِك لَا يبكي عِنْد وُرُود هَذِه الشدَّة عَلَيْهِ مَعَ مَا يلقاه من وكز الشَّيْطَان وطعنه فِي خاصرته
فصل
والجنين فِي الرَّحِم كَانَ يغتذي بِمَا يلائمه وَكَانَ يجتذب بالطبع الْمِقْدَار الَّذِي يلائمه من دم أمه وَبعد خُرُوجه يجتذب من اللَّبن مَا يلائمه أَيْضا لكنه يجتذب بشهوته وإرادته فيزيد على مِقْدَار مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مَعَ كَون اللَّبن