سَمِعت أَبَا زَكَرِيَّاء الْحَرْبِيّ الْمُزَكي النَّيْسَابُورِي يَقُول: رئي شيخ كَبِير من الْجند فِي بعض الحروب، وَقد تَأَخّر عَن الصَّفّ، واستعد للهروب، فَقيل لَهُ: أتأخذ رزق السُّلْطَان بِهَذَا الْجُبْن؟ فَقَالَ: لَو لم أكن جَبَانًا لما بلغت هَذِه السن الْعَالِيَة. وَكَانَ أَبُو الْهُذيْل العلاف يَقُول: بشروا الجبان بطول الْعُمر. وَكَانَ ابْن عَائِشَة الْقرشِي يَقُول: مَا فِي الدُّنْيَا شُجَاع إِلَّا متهور، وَلَا جبان إِلَّا متحرر. وَكَانَ بعض الْجُبَنَاء يَقُول: فر أَخْزَاهُ الله خير من قتل رَحمَه الله. وَقَالَ آخر: من أَرَادَ دوَام السَّلامَة فليؤثر الْجُبْن على الشجَاعَة. وَقَالَ آخر: نَحن نتأدب بدين الله سُبْحَانَهُ فِي قَوْله: " وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ". وَسمع بَعضهم من قَول: الشجاع موقى، والجبان ملقى، فَقَالَ: العيان وَالْخَبَر والتجربة مِمَّا يشْهد بقلب هَذَا الْكَلَام. وَقيل لآخر، وَقد عزم على الْهَرَب: أَلا تجزع من السُّلْطَان أَن يَأْمر بِإِسْقَاط رزقك؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أهرب خشيَة من سُقُوط الرزق. وَرَأى بعض الْأُمَرَاء رجلا قد تَأَخّر عَن الصَّفّ فَقَالَ: وَيلك لم لَا تحارب؟ فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير لست الْيَوْم بِطيب النَّفس، فَاحْسبْ كم جرايتي لهَذَا الْيَوْم، فاسترها مني فِي غَيره، وَدعنِي أمرّ فِي لعنة الله.