نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام قوم فضلاء يرون أن تكون هذه
اللغة التي استخفِظوا عليها مصرية بعد أن كانت مُضرية، وأن تطرد لهم مع النيل بعدد الترع وعداد القرى حتى ترسل الكلمة من الكلام فلا يجهلها في مصر جاهل، ويصدر الكتاب من الكتب فيجري في أفهام القوم على طريقة واحدة ويأخذ منهم مأخذاً معروفاً غير متباين بعضه من بعضه.
ولا ملتو على فئة دون فئة، ومن ثم يزين لهم الرأي أنه لا يبقى في هذا الجم الغفير. . . من علمائنا وكتابنا وأدبائنا من لا يعرف أين يضع يده من ألفاظ اللغة ومستحدثاتها إذا هو كتب أو مصّر عن لغة أجنبية - ولا نقول عرْب، فإن هذا بالطبع غير ما نحن فيه
- بل يأخذ من تحت كل لسان، ويلقف عن كل شفة، ولا يُبعِد في التناول إلى مضطرب واسع، ولا يمضي حيث يمضي إلا مُخِفًّا من هذه القواعد وتلك
الضوابط العربية، إذ تتهادن يومئذ العدوتان: هذه العامية وهذه الفصحى.
وتصلحان بينهما أن لا ترفع إحداهما في وجه الأخرى قلماً ولا لساناً، وعلى أن تبيح كلتاهما للثانية حرية الانتفاع بما يشبه حرية التجارة إلا في "المواد" السامة التي يعبر عنها دهاة السياسة اللغوية بالألفاظ العلمية المبتذَلة والألفاظ العربية الغريبة، ثم على أن لا تحفل إحداهما ما تركت الأخرى مما سوى ذلك، فتستمر العامية على ما هي وتذهب الفصحى على وجهها.
يقولون إن هذه هي شروط الصلح بين اللغتين، أو هي المعاني التي ترجع
إليها وتترادف بها متى أرادوا أن يبسطوا من هذه الشروط ويخرجوا بها إلى
التعدد والكثرة، وإنما تلك آراء كان يتعلق عليها بعض فتياننا إفراطاً في الحمية ومبالغة في الحفيظة لمصر وأملاً مما يكبر في صدورهم على ما ترى من تهافتها وضعف تصريفها واضطراب أولها وآخرها لأنهم لا يُثبتون النظر فيها ولا يحققون خطوةً ما بين الإرادة والقدرة، وفَوْتَ ما بين الأمل والعمل، ثم لا يعرفونها إلا أحلاماً قريبة الأناة ساكنة الطائر فكان ذلك عذر العقلاء إذا مروا بها