فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدة أمة أخرى، فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهيروغليفية، ولو انتزَت بهم أمة أخرى غير الأمة العربية لهجروا العربية لا محالة؛ وكذلك يتوجه هذا القياس طرداً وعكساً كما ترى؛ وإن في العربية سراً خالداً هو هذا الكتاب المبين (القرآن) الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصريح ويُحكم منطقاً وإعراباً بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهها وبالجملة عن مؤداها، وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر، ثم هذا المعنى الإسلامي (الدين) المبني على الغلبة والمعقود على أنقاض الأمم والقيِّم على الفطرة الإنسانية حيث توزعت وأين استقرت فالأمر أكثر من أن تؤثر فيه سورة حمق أو تأخذ منه كلمة جهل، وأعضل من أن يزيله قلم كاتب ولو تناهت به سن الدهر
حتى يلقى من الأمة أربعة عشر جيلاً كالتي مرت منذ التاريخ الإسلامي إلى
اليوم!.
والقرآن الكريم ليس كتاباً يجمع بين دفتيه ما يجمعه كتاب أو كتب
فحسبُ، إذ لو كان هذا أكبر أمره لتحللت عُقده وإن كانت وثيقة، ولأتى عليه الزمان، أو بالحريّ لنُفس من أمره شيء كثير من الأمم، ولاستبان فيه مساغ للتحريف والتبديل من غالٍ أو مُبطِلٍ، ولكانت عربيته الصريحة الخالصة عذراً للعوام والمستعجمين في إحالته إلى أوضاعهم إذا ثابت لهم قدرة على ذلك.
ولو فعلوه لما كان بدعاً من الرأي ولا مستنكراً في قياس أصحابنا. . . لأنهم لم يَعدُوا منفعة طلبوها من سبيلها وخطةً انتهجوها بدليلها.
وليس يقول هذا إلا ظنين قد انطوى صدره على غل واجتمع قلبه على
دِخلة مكروهة وإلا جاهل من طراز أولئك لا يستطيل نظره بتجربة ولا ينفذ بعلم وإنما هو آخذ بذنب الرأي لا يُوَجهه ولكن يتوجه معه، ولا يُقبل به ولكن يدبر به الرأي.
إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله
مستعربين به متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكماً حتى يتأذن الله بانقراض
الخلق وطيِّ هذا البسيط، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن على الناس
وردهم إليها وأوجبها عليهم لما اطرد التاريخ الإسلامي ولا تراخت به الأيام إلى ما شاء الله، ولما تماسكت أِجزاء هذه الأمة ولا استقلتِ بها الوحدِة الإسلامية،