لقد أهملنا اللغة ثم أهملناها حتى صارت معنا إلى حال من الجفوة
جعلتها كالواعلة علينا والغريبة عنا، وجعلتنا من نقص فهمنا فيها بحيث نضطر إلى التماس شيء غيرها نفهمه، فصار إصلاح اللغة كأنه دُربة لإفسادنا وإفسادها فيما نتوهمُ دُربة لإصلاحنا، إنما هما خطتان لا تفضي كلتاهما إلى شر من أختها مبداً أو مُنقلبا" وإن أقبح ما ترى من شيئين أن يكون أحسن الرأي تركهما جميعاً.
زعموا أنهم يريدون أن تسهل الألفاظ وتنكشف المعاني وتكون الكتابة في
استوائها وجمالها كصفحة السماء، فهل البلاغة العربية إلا تلك وهل هذا أمر
عربي؛ بلى وهل يعرفون - أصلحهم الله - أن الطفل يرى كل ما يدور في مسمعه من ألفاظ والديه كأنه إنما يتفق لهما اغتصاباً واعتسافاً واستكراهاً، إذ لا يفهم من كل ذلك شيئاً إلا بمقدار ما يعتاد وعلى حسب ما تبلغ حاجته وإذ هي لغة أوسع من لغته مادة وصناعة، فلم لا يكون الرأي أن ينزل الآباء إلى لغات أطفالهم ويقتصر هذا المنطق الإنساني على المترادف المتوارد من أسماء الألعاب الصبيانية وما يلتحق بها..؟
ثم ما هو حكم العامي - وهو في كل أمة الطفل العلمي - بجانب أهل
العلوم: أتراه يَلقف عنهم إلا بميزان تلك الغريزة الفطرية في الصغير مع أبويه؛ فلم تمحى العلوم وألفاظها ومصطلحاتها وأساليب التعبير عنها ونحو ذلك مما
تتراخى به شُقهُ الفهم إذا تعاطاه ذلك العامي أو خاوله، ويكون جهد العلماء فيما تطيقه العامة وسداد العامة فيما يطيقه الأطفال. . .؟
وأنت إذا تخطيت أمر الطفل اللغوي والطفل العلمي وأسندت في الحد
الأعلى لهذه الطفولة لم تر إلا طراز أصحابنا وهم أطفال الأدب، فهل يكبر
عليهم أن يكبروا ويشتدوا أن يساوقوا الفطرة في مجراها، فيأخذوا الشيء
بأسبابه، ويأتوا الأمر من بابه، ويدعوا الرأي إلى يوم يكونون من أربابه؟..
يصدرون رأيهم على جهل، فإذا كشفت لهم معناه وبصرتهم بمصايره ووقفت
بهم على حدوده وأريتهم وجوههم في مرآة النصيحة، أنكروا ما جئت به
وحسبوك تفتري الكذب وأصروا واستكبروا استكباراً لأن رأس علمهم أن يظنوا لا أن يحققوا ما يظنون، فالرأي عندهم هو الرأي في ذاته لا ما يتعلق به ولا ما يتأدَّى إليه.
إنما اللغة مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، والأمة تكاد
تكون صمْة لغتها لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها ولا قوام لها بغيرها.