مضى، وبعد أن لا يكون قد أفاد من الجناية إلا معرفته كيف جناها، فكأن
المصيبة على هولها إنما حلت لتفهمه أنه جاهل؛ وما أعزها كلمة لا تفهم إلا
من مصيبة!.
وليس ينفك الجاهل بالشيء إذا رأى فيه رأياً من خصال: فأما واحدة
فاقتضابه الرأي، لا يُغبه للخبرة، ولا يبلوه بالتثبت، ولا يكاد يرى فيه مذهبا لتقليب النظر، لْما هو إلا أن ينزو في رأسه نزوة أو نزوتين حتى يكون قد وزنه ورازه وعرف مقداره صواباً من خطأ وخطأ من صواب فيصدره على أنه مما أنبطه الزمن من قليب قلبه، وافتكه من عقال عقله على أنه الحق لا مراء فيه، وعسى أن لا تجد في باب المراء مثلاً أدل منه على الرأي القائل كيف يهلك أو يقيل.
وأما الثانية فتزين ذلك الرأي له على سخفه حتى يدفع عنه كل الدفع.
ويحوطه بكل حجة، مُلجلجة، وحتى يرى أن الكد في ذلك هو يثبته، وأن
الثبات على الكد هو يحققه، فلا يزال يخور بمقدار ما يشتد في أمره تعنتاً ثم لا
يصيب من وجه الأمر إلا ما يضل في مجاهله؛ فيكون قد تأتى من سبيل الثقة
إلى الغرور، ومن سبيل الغرور إلى الباطل، وكبُر ذلك مقتاً وساء سبيلاً.
وأما الأخرى من تلك الخصال فإن الرأي متى تماسك بما يجم حوله
ويستمر عليه من الخواطر؛ فإنه سيكون منه عَقد يخرج عن أن يكون رأيا
موضوعاً إلى أن يصير وحياً مرفوعاً، ويكبر عن أن يكون مضطرباً في العقل بين الحجج والبراهين، فينحدر إلى القلب عند مستقر العاطفة والدين ثم لا يكون من هذا إلا ما تراه في كل جاهل من الرأي يصدره وكأنما يصدره شرعاً معصوماً
لا يزيغ عنه الزائغ إلا بخذلان من الله. . . فإن هو لم يُتبع عليه ولم يتشيع له فيه أحد كان هذا الجاهل نبئ نفسه، لا يبالي ما ترك الناس مما اتبع هو ولا ما
اتبعوا مما ترك!
وتلك خصال في نسق واحد وعلى نظام مطرد لا هوادة بين أولها
وآخرها؛ فهي وإن تعددت إلا أنها كما يتعدد الموج للغريق، تنتصب منه أشباه الجبال ثم لا يستند الغريق من جميعها إلا إلى الماء الذي يغرق فيه.
وهذا تفسير القول آنفاً إن الجهل على استواء واحد في نظر أهله.