إن من عادتي إذا جلست للكتابة أن أضع ساعتي ناحية إلى اليمين مرتفقة
ذراعي أسد مصنوع من الحديد قد ربض ربضةَ الكبرياء مستوفزاً كأنما يجمع
الوثبة على فريسة وجد في الهواء ريحَها، كاشراً كأنما يتهيأ لنقضها نفضة
الموت، مقشعرا يضم أجزاءه ليرسل منها حملته الفاتكة، وقد برز له صدر
ضخم مكتنز عُضلة لا أحسبه إلا جحر ذلك الطاحون الحيواني الذي صنعه الله من شدقيه وأنيابه.
وتأملتُ الآن هذا الأسد وهو يحمل ساعتي وأخذت أفكر فيما أكتب اليوم
عن الجامعة، فقلت: أسأل هذه الجامعة: ماذا عسى أن يدرك الأسد من معنى هذه الساعة لو هو أبصرها ملقاة بين يديه في الصحراء ورأى عقاربها تدب دبيبَها؛ أتراه يظنها خنفساء ذات لون أبيض، أم يحسبها في أرقامها السوداء قرية صغيرة من النمل، أم يخالها قطعة من العظم تفرَّق الذباب على أطرافها؟
إنه ظان ما شاء أن يظن إلا أن يعرف أنها أداة لتعيين الوقت، فإن ساعة الوقت عنده هي قرص الشمس يطلع أو يغيب، لا ليدل على أن الساعة واحدة أو ثلاثة أو اثنتا عشرة، بل الساعة ظلام أو الساعة نور.
هذا في الأسد؛ أما في الإنسان فنسأل الجامعة: أكل امرئ يعرف قيمة الوقت في تحريره وضبطه؟ أم كل إنسان في ذلك بحساب من عمله وطريقته في الحياة؟ وماذا يفهم "المتشرد" في الطرقات من معنى قولك الساعة خمسة والساعة عشرة إلا على نحو مما يفهم الأستاذ طه حسين من المعاني الدينية السامية في التاريخ الإسلامي، إذ تعيَّن له فضائل كريمة لا يألفها ولا يسيغها ولا يعقلها، كما تعيَّن الساعة مواقيت دقيقة لا محل لها في حياة المتشرد والمفلول ولا وزن ولا قيمة.
وإذا نحن وضعنا هذه الساعة في ثوب هذا المتشرد وكانت عاملة محرَّرة
ثم وضعناها يوماً آخر وهي معطلة خربة.
فهل هذا اليوم عنده إلا كذاك اليوم؟
وهل تكون ساعة مثل هذا الرجل إلا الرغيف
والقرش ونحوهما مما لا يدله على أن الساعة واحدة أو ثلاثة
أو اثنتا عشرة بل الساعة شبع والساعة جوع؟