فينبغي - أصلحك الله - أن تقف حيث وُقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا
تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا صناعتك " انتهى.
وقد كان أحد أصدقاء طه يجادلنا ذات يوم؛ فرد علينا ما وصفناه به من أنه
لا حظ له في الشعر ولا يدَ له فيه، وقال: إن له فيه يداً ورجلاً. . . وإنه غير منسلخ من الشعر بل هو في جلد شاعرين معاً، وإنه قد انبثت خواطره في كل معنى وافتتح للناس طريقة الأدب الحديث التي جمع فيها بين بلاغة اليونان والفرنسيس والعرب، فذهب في شعره بمحاسن هذه الأمم الثلاث؛ ودلنا على أبيات كان نظمها في استقبال العام الهجري، وقال إنها نُشرت في بعض أعداد "المقطم " من زمن، فكتبنا إلى من جاءنا بها، فما منها إلا المعنى البكر والأسلوب النادر واللفظ الموسيقي، وفيها الحلاوة والطلاوة ولها رفيف وعليها ماء، حتى لو تليت على شجرة جافة لاخضرَّت ثم هي بعد آية في الدلالة على القريحة الصافية والبلاغة المتمكنة والطبع البدوي السلس الرقيق الذي عرفه هو في كتابه بأنه يُعرض عن تكرار الحروف، فقال لا فضَّ فوه، وبتعبير المذهب الجديد لا أحوجه الله إلى تركيب أسنان:
ما لي وللبدر أطلب ردّه (?) . . . بل ما لأفلاك السماء وما لي
لا در در المال لو لم يُدَّخر. . . لبناء مكرمة وحسن فعال
لا در در المال لو لم يدخر. . . إلا لذات الطوق والخلخال
لا در در المال لو لم يدخر. . . إلا لنيل مراتب الإجلال
والأغنياء على الملاهي عكف. . . صرعى اللواحظ والهوى الختَّال
ولا ريب عندنا أن هذه الأبيات من قصيدة طويلة ذهبت بقيتها في إحدى
الزلازل، لأنه بعد هذا الشعر لا يكون إلا الرجم وانقضاض الشهب وتمزق
الأرض. أفلا ترى الشيخ يقول: "بل ما لأفلاك السماء وما لي، فهذا نذير بأنها توشك أن تنقض عليه وتُتبعه شهاباً رصداً، وتأمل البيت الرابع فإنه من فرط سموه وإبداع معناه والتعميق فيه قد فسد، لأن الشاعر يلعن المال إن لم يدخر إلا لنيل مراتب الإجلال.
فهل مراتب الإجلال إلا العلا والمكارم، وهل يدخر المال إلا لهذا؟
أم تكون المراتب هي الرتب والنياشين؟
وإذن فما كلمة "الإجلال " إلا سمو آخر لإفساد المعنى إذ رُتَبُ الإجلال هي رتب العظماء في