مَزجَر قريب منهم وهم يتعابثون ويلعبون، ثم قام فانسل أصغرهم فتمسح به، ثم التقم خبزته فوثب بعيداً، ثم جعل يستطرد لهم ويعدو عدواً رفيقاً وهم يتبعونه يريدون أخذه وإمساكه، حتى إذا جاء موضع الحمار دفع بين رجليه، ورفع الحمار راية ذيله فأصبح الكلب في حمايتها. . . وكان هذا الحمار قد رأى في بعض أسفاره قراداً يرقص قرداً وقد اجتمع له الصبيان، وعاين ما استخرجته حركات القرد من عجبهم ولهوهم، فلما اجتمع أولئك الصبيان يريدون أخذ الكلب طَفق يصنع لهم كما رأى القرد يصنع، وبذل في ذلك غاية جهده وبلغ فيه منتهى حماريته. . . فبهِتَ الكلب وجعل ينظر كالمتعجب ويقول في نفسه:
أقرد هذا أم حمار؟ وأين ويحه المعجزة التي زعم، فإنما هذا رقص كالرقص.
وإذا كان الرقص أكبرَ أمرِه فما في أمره كبير عندنا؛ فإن أهوَنَ الكلاب لأقوى عليه من أعظم الحمير.
قال دمنة: وكان في النظارة خبيث نقاد، فقال: ما لهذا الحمار وخِفةَ
القرود ونَزَقَها وما تصنع من الطيش؛ إِن هذه الشياطين إِنما تُتخذ لمحض اللهو
والعبث، وهذا الغبي لا يرتبط إلا للحمل والمنفعة، فإذا هو ركبتهُ هذه الطبيعة وتُرك لها حتى تأخذ مأخذها فيه فوالله إن بقي أحدٌ يأمنه على أولاده، ويوشك أن يَقمص بأحدهم هذا القِماص فيرمي به فيدق عنقه أو يهشم عظماً من عظامه.
ثم إنه راغ إلى داره فجاء بهراوة غليظة والحمار في عمَى مما يصنع.
وقد قام في نفسه أنه موحَى إليه، وأنه أكبر معلم للعلم في أكبر مدرسة في الدنيا. . .
فما راعه إلا الخبيث قائماً يدق ظهره بالهراوة وأسرع الصبيان فتناولوا ما أصابته أيديهم من عود وخشبة وجلدة وما خف وثقل وداروا بالأستاذ الحمار فاعتَوَرُوه، وخرج الكلب يشتد عدواً حتى إذا نجا بعيداً أنحى على نفسه وقال: ويحك يا نفس! ما كان أجهلك! لقد كدت والله تهلكينني، أفيمكن في عقل العاقل أن تكون معجزةُ حمار إلا شيئاً كتقليد القرد. . .؟
* * *
وما دمنا في التقليد وانتظار المعجزة من وراء العجزة فإتا نقول إن
فلاسفتنا المضحكين من أمثال طه حسين يُخرجون عجزهم مخرجَ الحيلة.
فيُحكمون له التدبير ويأتون به في مثل أسلوب السحر والتلبيس والشعوذة، فإذا امتهدوا له من صناعتهم وبذلوا فيه العفو والجهد ثم جاؤونا به، نظرنا وحققنا فلم نر شيئاً، فقلنا: ما أهون وما أضعف وما أسخف، ثم قلنا لهم إنكم مقلدون مفضوحون؛ وإن أحدكم لهزيل ولا يرى إلا حُلة البادن الغليظ، وقصير ثم لا،