ذلك قديم؟.. أم هناك حقيقة ثابتة محدودة خفيتْ على عِظمها وخطرها في
هذه اللغة خفاء أمريكا في هول المحيط.. حتى بعث الله لها في أيامنا هذه من
يرميها ببصره فكشفها وسماها وكان منها المذهب الجديد وكانت هي إياه.
لو تأمل أصحابنا تاريخ هذه اللغة وآدابها لرأوا في كل عصر من عصورها
شيئاً كان يمكن أن يسمى مذهباً جديداً، ولكنا لم نجد أحداً سماه كذلك ولا
بناه على أنه شيء بنفسه إلا في هذه الأيام الأخيرة، ثم لم نجده إلا في هؤلاء
الذين غلبت عليهم صناعة الترجمة ورجعوا من العربية إلى طبع ضعيف ومادة
واهنة، فورد عليهم من الصناعة ما لا تقوم به أداتهم وسال بهم الوادي عجزاً، فلم يكن بدٌ من أن تُدخِل اللغات الأعجمية الضيمَ على عربيتهم، وصار أكثرهم بِلغتيه كالميزان ثقلت كفة منه فرجحت وخفت الأخرى فظهرت فارغة. . . ولو هو وضع في هذه وزنَ ما في تلك وكافاً بينهما لانقلب الأمر وكانتا على سواء فلا واف ولا ناقص.
العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد، بل إلى الضعف في
لغة والقوة في أخرى، وإن صاحب المذهب الجديد.. أخذ بالحزم في واحدة
وبالتضييع في الثانية، وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر، فتعلق به وأمضى أمرَه عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من العصبية للأدب الأجنبي وأهله، فلما ضربتْ هذه العصبية واستحكمت وجهت الذوق في الأدب وأساليبه إلى تفسير معين بحكم المذهب والهوى ثم جعلت الفهم من وراء الذوق.
وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو عن فهمه، وأن الحكم على
شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعاً، ومن
ههنا جاء ذلك الخطأ الذي يحسبونه صواباً، على أنك واجد في القوم من لا
تتهم فهمه ولكنك لا تبرئ إنصافه، ومن لا تتهم فيه هذا ولا ذاك ولكنه مع
ذلك يجيء فهمه خطأ لأنه لا يريد أن يجيء إلا هكذا. . . لمكان العصبية من
نفسه لرأي على رأي، أو شخص على شخص، أو دين على دين، مما لا يكون الشأن فيه إلا للحس الباطن.
وقد قال علماء الأدب إنه لما اتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر
ونزعت البوادي إلى القرى وفشا التأدب والظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كئيرة فاختاروا أحسنها مسمعاً وألطفها من القلب موقعاً، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأشرفها،