إن هذا الكتاب السخيف الذي جاءتنا به الجامعة مما تضيق به النفس
لكثرة ما فيه من الخطأ، حتى لا يطيقه إلا من كان في عقل صاحبه وضعف
حجته وتهافت آرائه وكثرة سقطه، وقد وجدنا أن أقوى ما يستند إليه المؤلف في كذب ما روي من الشعر الجاهلي دليل واحد اجتهد فيه وكرره وسماه عقدة لغوية وأيقن أن أنصار القديم لا يستطيعون فيه شيئاً، وذلك ظنه أن اختلاف لهجات العرب يجب أن يكون في أشعارها.
ولما كان شعر الجاهلية ليس فيه شيء منها فهو موضوع بعد الإسلام وبعد أن صارت اللغة قرشية، قال:
"فهذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر، في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام، وإذا لم يكن نظم القرآن وهو ليس شعراً ولا مقيداً بما يتقيد به الشعر قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل "يريد اختلاف القراءات " فكيف استطاع الشعر، وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقي "؟
فما هي اللهجات يا أستاذ الجامعة؟ كان ينبغي أن تستقر بها قبل أن
تعترض بها، فإنك لو فعلت لرأيتها في الجملة لا تغير شيئاً من أوزان الشعر.
فهي في معظمها بين إبدال حرف بحرف أو حركة بحركة أو مد بمد، وكل ذلك لا يؤثر في إقامة الوزن كثيراً ولا قليلاً، والاختلاف في الحقيقة هيئات في النطق والصوت أكثر مما هو هيئات في الوضع واللغة، ومع ذلك فقد نصوا على أن العربي الفصيح غير مقيد بلغة قبيلته إذا نافرت طبع الفصاحة فيه، فمنهم من يوافق اللهجة ومنهم من يخالفها لسبب عند هذا وعند هذا راجع إلى الفطرة وقوتها، ومن القبائل من تأخذ لهجة غيرها كما فعلت قريش، فقد كانت لا تهمز، فلما نزل القرآن بالهمز اتخذت هذه اللهجة.
ويجب أن تعلم يا أستاذ الجامعة أن عندنا نصاً عن ابن الكلبي أن العرب
لم ترو من شعر الجاهلية إلا ما كان إلى مائة سنة قبل الإسلام، أي عمر رجلين
يروي أحدهما عن الآخر، وذلك هو الزمن الذي نهضت فيه اللغة وأخذ العَرب بعضهم عن بعض.
ومع كل هذا فهناك نص آخر على أن من اختلاف اللهجات ما يؤخذ به
في إنشاد الشعر إذا وجد في لغة من ترتضى عربيته، ومنه ما لا يؤخذ به إذا
وُجد في لغة من لا تُرضي عربيته، فذلك دليل قاطع على أن العلماء حذفوا
أشياء لم يَرضوها وغيروا في إنشاد الشعر لا في نظمه، قال شاعر من بني تميم:
ولا أكول لكدْر الكوم قد نضجت. . . ولا أكول لباب الدار مكفول