قائم بالملكة والفهم لا بالفهم وحده، ولم ينتقد في كتابه الشعر الجاهلي نقداً

فنياً إلا بيتاً واحداً من قصيدة عمرو بن كلثوم المعروفة بالمعلقة، وهو قوله:

ألا لا يجهلنْ أحد علينا. . . فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا

قال الأستاذ: "قلت إن هذاً البيت يمثل إباء البدوي للضيم، ولكني

أسرع. . . فأقول إنه لا يمثل سلاسة الطبع البدوي وإعراضه عن تكرار الحروف

إلى هذا الحد الممل فتمد كثرت هذه الجيمات والهاءات واللامات واشتد هذا

الجهل حتى مُل " انتهى.

قلنا ليته لم يسرع ولم يفرح بهذا الخاطر فقد عثر من

إسراعه فامتلأ فمه تراباً، ومتى كان الأستاذ طه حسين يفطن إلى عيب تكرار

الحروف وهو الذي كانت تضرب به الأمثال في التكرار قبل أن نلقنه ذلك

الدرس في جريدة "السياسة"، وهو لم يبرأ بعدُ من هذه العلة، فقد رأينا له مقالاً في "مقتطف" شهر مارس من هذه السنة 1926 جاءت فيه هذه الشأشأة. . .

" يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء لا كما تشاء الأشياء" فتأمل.

نقول لأستاذ الجامعة: إن التكرار في بيت عمرو بن كلثوم هو سر البلاغة

فيه، وهو اللون الذي نفضه الشاعر من ألوان روحه على المعنى ليخلقه خلقاً

حياً بحيث لو لم يكن هذا التكرار لضعف المعنى وسقطت رتبة الشعر؛ فإن هذا الشاعر يمثل في البيت غضب قومه وحفاظهم وقدرتهم على المجازاة والنقمة والأخذ الشديد لمن عز وهان، فلم يقل: إذا جهل أحد علينا فعلنا وفعلنا، وكان يستطيعه إذا جعل البيت:

متى ما يجهلن أحد علينا جهلنا. . . الخ، بل نبه أولاً بقوله:

"ألا" ثم نهى بعد ذلك أن يجهل أحد عليهم، ليشعِر أن لقومه الأمر

والنهي؛ فهذه واحدة، ثم كرر بعد ذلك لفظ الجهل بالفعل والمصدر واسم

الفاعل، ومضى به إلى منقطع الشعر جهلاً بعد جهل، ليشعر النفوس أن

انتقامهم بلاء لا آخر له، يتتابع فيه الجهل الذي لا عقل معه فلا رحمة فيه.

وكأنه يقول: إن الصاع بثلاثة، وإن من أساء إلينا واحدة رددناها عليه ثلاثاً؛ وكل ذلك إنما أفاده التكرار، وهذا هو غضب الطبع البدوي وحفيظته، فلا تنتظر من هذا الطبع الحر سلاسة ولا رقة في موقف الغضب والتحذير وإنذاره أعداءه البطشة الكبرى، بل ترقب الهول الهائل الذي تمثله لك الجيمات والهاءات واللامات إذا ملأ بها شدقيه عربي جهير الصوت فخم الإنشاد ثائر العاطفة

غضوب الدم يهدر بالكلام هديراً، أفرأيت يا أستاذ الجامعة؟

* * *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015