والعلم كثير [1] فخذوا من كلّ شيء أحسنه.
فإذا تأمّل المرء سيرة الماضين من الأقوام، جنى مع تقارب الشهور والأيّام، ثمرة ما غرسوه على تطاول الدهور والأعوام، وعلم علل الأحوال وفوائدها، وحيل الرجال ومكايدها، وعرف مبادئ الأمور ومصائرها، وقاس عليها أشباهها ونظائرها، وعمل بأنفع ما حبى به من الفهم والعلم، وانتفع بأصوب ما عمل به فى الحرب والسلم، وأقدم على المواطن التي يرتجى فى أمثالها الظفر، وأحجم عن الأماكن التي يتوقّى فى أشكالها الحذر، وتسلّى بمن تدرّع الجلد عند حدوث النوائب، وتأسّى بمن توقّع الفرج حين ظهور العجائب، وذكر مصير العاقبة إذا أرخت يد الغفلة عنان أشره، ونظر بالبصيرة الثاقبة إذ غطى غرور الدنيا على بصره.
فهذان القسمان يجمعان الدين والدنيا، ويبلغان بصاحبهما الدرجة العليا.
فأمّا ما فى ذلك من حسن المفاوضة والمذاكرة، وأنس المحادثة والمسامرة، فقد [8] خفّفت القول فيه لأنّه يصغر فى جنب ما قدّمت ذكره من القسمين العظيمين، والأمرين الجسيمين. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل الصيد فى جوف الفرا [2] .
وإنّنى تأمّلت كتاب تجارب الأمم وعواقب الهمم، الذي صنّفه أبو على أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، فوجدت فوائده غزيرة، ومنافعه كثيرة، وعلمه جمّا، وبحره خضمّا. فراقنى تأليفه، وأعجبنى تصنيفه. فرحم الله مصنّفه وأجزل فى الآخرة أجره كما طّيب فى الدنيا ذكره. فلقد اختار فأحسن الإختيار، ومخض فأتى بزبد الأخبار. وسلك سبيلا وسطا بين التطويل والاختصار. ثم لم يقنع بذلك حتى قرّب مسالك الطرق البعيدة، وبرز من أثناء الإختيار ذكر الآراء السديدة، ونبّه فيها على، مقامات حميدة، وبين