وقال أبو علي أييست من معرفة غرض ما بعد الطبيعة حتى ظفرت بكتاب لأبي نصر في هذا المعنى، فشكرت الله تعالى على ذلك، وصمت وتصدقت بما كان عندي.
وله تصانيف كثيرة أكثرها موجود بالشام وما يوجد منها بخراسان المختصر الأوسط في المنطق والمختصر الموجز وكتاب البرهان وجوامع كتب المنطق وآراء المدينة الفاضلة والتعليقات وشرح كتب أرسطو وشرح اوقليدس في الموسيقى أربع مجلدات وكتاب النفس وكتاب التفسرة وطماناوس ورسائل كثيرة.
وقد رأيت في خزانة كتب نقيب النقباء بالري من تصانيفه ما لم يقرع سمعي اسمه وأكثر ما رأيته كان بخطه وخط تلميذه أبي زكريا يحيى بن عدي.
ورأيت في كتاب أخلاق الحكماء أن الصاحب الجليل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد بن عباس بعث إلى أبي نصر هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئاً حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء زري وسخ وقلنسوة بلقاء.
وكان أثط قصيراً على هيئة بعض الأتراك وكان الصاحب يقول من أرشدني إلى أبي نصر أودعاه إلي أعطيته مالاً أغناه فانتهز أبو النصر الفرصة حتى دخل مجلس الصاحب متنكراُ وكان المجلس غاصاً بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس، وهو يحتمل أذى الإيذاء ويغضي على قذى الإستهزاء حي اطمأنت أنفسهم بمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهراً واستخرج لحناً مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد منهم كالذي يغشى عليه من الموت وقيل كانت معه آلة أعدها لهذا الشأن وكتب على البربط قد حضر أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم وغاب. ثم خرج من الري متنكراً مع رفقة، متوجهاً تلقاء بغداد، فلما أفاق الصاحب وندماؤه تعجبوا من حذقه في صناعة الموسيقى، وتأسفوا على فوات منادمته. ثم قال الصاحب: أديروا الكؤوس على اسمه لعل الزمان يرده علينا.
فلما حمل المطرب العود قال: أيها الصاحب قد كتب ذلك (الرجل) شيئا على مزهري، فلما نظرا إليه الصاحب وعرف انه أبو صر شق جيبه واستغاث، وجهز أعوانه في طلبه، فكان كالقارظ العنزي، فلم يجدله أثراً، ولم يسمع عنه خبرا، وبقي بقية عمره متأسفا على فوات منادمته، والفعلة عن معرفته عن مشاهدته، وأين من المشتاق عنقاء مغرب وقد سمعت أستاذي رحمه الله (يقول) أن أبا نصر كان يرتحل من دمشق إلى عسقلان فاستغفله جماعة من اللصوص الذين يقال لهم الفتيان فقال لهم أبو: خذوا ما معي من الدولاب والأسلحة والثياب (وخلوا) سبيلي فأبوا ذلك وهموا بقتله. فلما صار أبو مضطرا ترجل وحارب حتى قتل مع من معه، ووقعت هذه المصيبة في أفئدة أمراء الشام (أسوأ) وقع فطلبوا اللصوص ودفنوا أبا نصر، وصلبوهم على جذوع عند قبره.
وبعض من لم يكن له معرفة بالتواريخ يحكي أن أبا نصر قد عراه الماليخوليا، ومرعلى شط دجلة برجل يبيع التمر فقال له: كيف تبيع التمر فأجاب الرجل بكلام غير ملائم، فضربه أبو نصر وقال: أسألك عن الكيف وأنت عن الكم، وهذا أبو نصر الطبيب السمر قندي لا أبو نصر الفارابي، والله تعالى أعلم.
وقال الحكيم أبو نصر الفارابي: ينبغي لمن أراد الشروع في علم الحكمة أن يكون شاباً، صحيح المزاج، متأدبا بآداب الأخيار، قد تعلم القرآن واللغة وعلم الشرع أولا، ويكون صينا عفيفا متحرجا صدوقا، معرضا عن الفسق والفجور والغدر والخيانة، والمكر والحيلة، ويكون فارغ البال عن مصالح معاشه، ويكون مقبلا على أداء الوظائف، غير مخل بركن من أركان الشريعة، بل غير مخل بآداب من اداب السنة، ويكون معظما للعلم والعلماء ولم يكن عنده شئ قدر إلا للعلم وأهله، ولا يتخذ علمه من جملة الحرف والمكاسب، وآلة لكسب الأموال، ومن كان بخلاف فهو حكيم زور ونبهرج فكما أن الزور لا يعد من الكلام الرصين، ولا النبهرج من النقود، فكذلك من كانت أخلاقه خلاف ما ذكرنا لا يعد من جملة الحكماء وقال: من لا يهذب علمه أخلاقه في الدنيا لا تسعد نفسه في الآخرة.
وقال: تمام السعادة بمكارم الأخلاق كما أن تمام الشجرة بالثمرة.
وقال: من رفع نفسه فوق قدرها، صارت نفسه محجوبة عن نيل كمالها