هَؤُلَاءِ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِدُونِ رِضَاهُ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِمْ إعَانَةً وَفَتْوَى مِنْ الْقَاضِي بِخِلَافِ غَيْرِ الْوِلَادِ مِنْ الْأَقَارِبِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ مَالِهِ شَيْئًا قَبْلَ الْقَضَاءِ إذَا ظَفِرُوا بِهِ فَكَانَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِمْ ابْتِدَاءَ إيجَابٍ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي فَأَرَادَتْ الْمَرْأَةُ إثْبَاتَ الْمَالِ أَوْ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ لِيُقْضَى لَهَا فِي مَالِ الْغَائِبِ أَوْ لِتُؤْمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ لَا يُقْضَى لَهَا بِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ

وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُسْمَعُ بَيِّنَتُهَا، وَلَا يُقْضَى بِالنِّكَاحِ، وَتُعْطَى النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ تُؤْمَرُ بِالِاسْتِدَانَةِ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَظَرًا لَهَا، وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ، وَصَدَّقَهَا أَوْ أَثْبَتَتْ ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ كَانَتْ آخِذَةً لِحَقِّهَا، وَإِلَّا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى الْكَفِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا يُقْضَى بِبَيِّنَتِهَا، وَيَثْبُتُ بِهِ النِّكَاحُ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذُكِرَ هُنَا

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلِمُعْتَدَّةِ الطَّلَاقِ) أَيْ تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِمُعْتَدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا نَفَقَةَ لِلْمُبَانَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ عَنْ «النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا قَالَ لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَفِيمَا رَوَاهُ عَنْهَا مُسْلِمٌ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا» الْحَدِيثَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلِأَنَّهَا بِإِزَاءِ التَّمْكِينِ، وَلَا تَمْكِينَ هُنَا لِعَدَمِ الْحِلِّ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَلَدَهُ، وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِيمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ زِيَادَةُ قَوْلِهِ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى»، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ كِتَابُ رَبِّنَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْآيَاتِ

وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنْ إخْرَاجِهِنَّ وَخُرُوجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَأَوْجَبَ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى عَلَى الْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ جَزَاءَ الِاحْتِبَاسِ بِحَقِّهِ صِيَانَةً لِمَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِمَا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى عَنْ مُضَارَّتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] فَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَتَضَرَّرَتْ فَأَيُّ ضَرَرٍ وَأَيُّ تَضْيِيقٍ أَشَدُّ مِنْ مَنْعِ النَّفَقَةِ مَعَ الْحَبْسِ بِحَقِّهِ، وَأَيُّ جَرِيمَةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ عُمُومَ الْآيَةِ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ رَجْعِيًّا بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] إذْ لَا خِيَارَ لَهُ فِي الْبَائِنِ قُلْنَا صَدْرُ الْآيَةِ عَامٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِذِكْرِ حُكْمٍ يَخُصُّ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ الصَّدْرُ فِي آخِرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يَتَنَاوَلُ الْبَائِنَ وَالرَّجْعِيَّ ثُمَّ لَا يُبْطِلُ عُمُومَهُ بِقَوْلِهِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ

وَتَخْصِيصُ الْحَامِلِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّنْ عَدَاهَا إذْ لَوْ نُفِيَ لَنُفِيَ عَنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّ أَيْضًا إذَا كَانَتْ حَائِلًا، وَإِنَّمَا خُصَّتْ الْحَامِلُ بِالذِّكْرِ لِشِدَّةِ الْعِنَايَةِ بِهَا لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْمَشَاقِّ بِالْحَمْلِ وَطُولِ مُدَّتِهِ أَوْ لِإِزَالَةِ الْوَهْمِ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ سُقُوطُهَا لِطُولِ الْمُدَّةِ، وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتَشْكَلَهُ السُّرُوجِيُّ، وَقَالَ: الْقَاضِي لَيْسَ بِمُشَرِّعٍ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَقَلَهُ الطَّرَسُوسِيُّ. اهـ. (قَوْلُهُ وَإِلَّا فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى الْكَفِيلِ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَعَمَلُ الْقُضَاةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ لِحَاجَةِ النَّاسِ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَيْ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ، وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَالتَّتِمَّةِ وَالْقُضَاةُ إنَّمَا يَقْبَلُونَ الْبَيِّنَةَ الْيَوْمَ عَلَى النِّكَاحِ لِلْفَرْضِ، وَيَفْرِضُونَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ إمَّا لِأَنَّ فِيهِ خِلَافَ زُفَرَ أَوْ لِأَنَّ فِيهِ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَفْرِضُ لَا تَحْتَاجُ الْمَرْأَةُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُخَلِّفْ لَهَا النَّفَقَةَ

(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا نَفَقَةَ لِلْمُبَانَةِ إلَخْ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو اللَّيْثِ اهـ أَتْقَانِيٌّ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ أَيْضًا لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ إذَا لَمْ يَمْلِكْ زَوْجُهَا الرَّجْعَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّعْبِيِّ اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ لَا نَفَقَةَ لِلْمُبَانَةِ) وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُخْتَلِعَةُ إذْ لَا بَيْنُونَةَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. اهـ. فَتْحٌ، وَلَهَا السُّكْنَى. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ طَلِّقْنِي إلَخْ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْيَمَنِ فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَعَلَى هَذَا فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الثَّلَاثِ عَلَى أَنَّهُ أَوْقَعَ وَاحِدَةً هِيَ تَمَامُ الثَّلَاثِ. اهـ. فَتْحٌ

(قَوْلُهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ) لَمْ يَرْوِ مُسْلِمٌ هَذَا، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ نَسَبَهُ إلَى مُسْلِمٍ قَالَ لَكِنَّ الْحَقَّ مَا عَلِمْت اهـ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَالْجَوَابُ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَدَمُ طَعْنِ السَّلَفِ فِيهِ، وَعَدَمُ الِاضْطِرَابِ، وَعَدَمُ مُعَارِضٍ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَالْمُتَحَقِّقُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ضِدُّ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُور اهـ (قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ كِتَابُ رَبِّنَا إلَخْ) قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كِتَابُ رَبِّنَا وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا الْقِيَاسَ الصَّحِيحُ لِثُبُوتِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِهِمَا إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ عَيْنَهُمَا لَذَكَرَهُمَا. اهـ. شَرْحُ الْبَدَائِعِ لِلْهَدْيِ (قَوْلُهُ صِيَانَةً لِمَائِهِ) وَلِهَذَا كَانَ لَهَا السُّكْنَى بِالْإِجْمَاعِ. اهـ. هِدَايَةٌ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015