وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَضْمَنُهُمَا لِذِمِّيٍّ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ لَهُ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي حَقِّهِمْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ.
قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدًا لِذِمَّةٍ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ»، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ لَا أَنَّ حَقَّهُمْ يَزِيدُ عَلَى حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فَيَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ إذْ الْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَيَسْقُطُ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّهِمْ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَلَنَا أَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ، وَمَا يَدِينُونَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سَأَلَ عَمَّا لَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ فَقَالُوا نُعَشِّرُهَا فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا وَوَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَلَوْلَا أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ لَهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالِاجْتِنَابِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ فَانْتَسَخَ فِي حَقِّهِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ عَلَى مَا يُعْتَقَدُ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ وَالْمُحَاجَّةَ مَوْضُوعَانِ عَنْهُمْ فَتَعَذَّرَ الْإِلْزَامُ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْتَقِدُ تَمَوُّلَهُمَا وَبِخِلَافِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ عُقُودِهِمْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ»؛ وَلِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161].
وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُرْتَدُّ يَكُونُ لِلذِّمِّيِّ فَإِنَّا نَقْتُلُهُ؛ لِأَنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ وَبِخِلَافِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا إذَا كَانَ لِمَنْ يُبِيحُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُحَاجَّةِ وَالسَّيْفِ ثَابِتَةٌ فَيُمْكِنُ إلْزَامُهُ فَلَا يَجِبُ لَهُ عَلَى مُتْلِفِهِ الضَّمَانُ، وَلَا عَلَى مَنْ اشْتَرَاهُ الثَّمَنُ، وَلَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ثُمَّ الْمُسْلِمُ إذَا أَتْلَفَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِهِ وَتَمَلُّكِهِ إيَّاهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إعْزَازِهَا بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَمْلِيكِهَا وَتَمَلُّكِهَا فَلَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ، وَلَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِمِثْلِهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ فِي حَقِّهِ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فَكَانَ بِإِسْلَامِهِ مُبْرِئًا لَهُ عَمَّا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الْخَمْرِ، وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَا؛ لِأَنَّ فِي إسْلَامِهِمَا إسْلَامَ الطَّالِبِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ وَحْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ بَعْدَهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْخَمْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّارِئَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ كَالْإِسْلَامِ الْمُقَارِنِ لِلسَّبَبِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ قِيمَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَذَا الطَّارِئُ وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَبْضَ الْخَمْرِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي الذِّمَّةِ قَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ قِيمَتِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَجِبَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ أَوْجَبَ عَيْنَ الْخَمْرِ دُونَ الْقِيمَةِ، وَلَمْ تَكُنْ الْقِيمَةُ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْخَمْرِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقِيمَةُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِيمَةَ الْحَيَوَانِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْحَيَوَانِ حَتَّى إذَا جَاءَ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْإِتْلَافِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا إذَا جَاءَ بِالْحَيَوَانِ فَيَكُونُ أَدَاءُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ كَتَسْلِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ تَسْلِيمَ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيمَ قِيمَتِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ قِيمَةِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ جُمْلَةِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ، وَقِيمَةُ مَالِهِ مِثْلٌ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى عَيْنِهِ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ أَدَاءُ الْقِيمَةِ كَتَمْلِيكِ الْخَمْرِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الضَّمَانِ فِي إتْلَافِ الْمُسْلِمِ الْخِنْزِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ
وَفِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُسْلِمُ خَمْرًا عَلَى ذِمِّيٍّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ قُبَيْلَ بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ إذَا كَانَا عَيْنَيْنِ، وَإِنْ كَانَا دَيْنَيْنِ فَالْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي الْخَمْرِ تَجِبُ الْقِيمَةُ، وَفِي الْخِنْزِيرِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
(قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَضْمَنُهُمَا لِذِمِّيٍّ أَيْضًا) احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] أَيْ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِحُرْمَتِهِمَا. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ) وَلَكِنْ هَذَا فِي الْمَيْتَةِ الَّتِي مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا؛ لِأَنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ، وَمَخْنُوقَتَهُ، وَمَوْقُوذَتَهُ مَالٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي الْمُخْتَلِفِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ التَّقْرِيبِ: وَذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ كَافِرٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لَنَا أَنَّهُ مَالٌ لَهُمْ أُقِرُّوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْخَمْرِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ ذَبَائِحَهُمْ مَيْتَةٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وَرَوَى أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ فِي عُهُودِهِمْ، وَمَنْ أَرْبَى فَلَا عَهْدَ لَهُ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَمْلِيكِهَا وَتَمَلُّكِهَا) قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ فِيمَنْ أَتْلَفَ صَلِيبًا عَلَى نَصْرَانِيٍّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ صَلِيبًا؛ لِأَنَّا أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ فَصَارَ كَالْخَمْرِ الَّتِي هُمْ الْمُقَرُّونَ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الذِّمِّيَّ يُمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ إلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّا اسْتَثْنَيْنَاهُ بِالْأَمَانِ وَلَوْ غَنُّوا وَضَرَبُوا بِالْعِيدَانِ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا نَمْنَعُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْتَثْنَ بِعَقْدِ الْأَمَانِ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ. اهـ.