وَخَمْرُ الْمُسْلِمِ وَخِنْزِيرُهُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْحُرَّةِ فِي قَوْلِهِ، وَلَا تُضْمَنُ الْحُرَّةُ أَمَّا مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ فَالْمَذْكُورُ مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَضْمُونَةٌ بِالْعُقُودِ كَالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ مَخْلُوقٌ لِمَصَالِحِنَا، وَالْمَنَافِعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ صَدَاقًا، وَلَمْ يُشْرَعْ ابْتِغَاءُ النِّكَاحِ إلَّا بِالْمَالِ بِالنَّصِّ، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَالٌ لَمَا صَحَّتْ صَدَاقًا وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ الْعَبْدِ التَّاجِرِ، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَالٌ لَمَا مَلَكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ بِغَيْرِ الْمَالِ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ أَنَّ الْأَعْيَانَ إنَّمَا تَصِيرُ مَالًا بِاعْتِبَارِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَمَالًا يُنْتَفَعُ بِهِ فَلَيْسَ بِمَالٍ فَإِذَا لَمْ تَصِرْ الْأَعْيَانُ مَالًا إلَّا بِاعْتِبَارِهَا فَكَيْفَ تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ فِيهَا، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِزَّةِ، وَهِيَ عَزِيزَةٌ بِنَفْسِهَا عِنْدَ النَّاسِ وَلِهَذَا يُبَدِّلُونَ الْأَعْيَانَ لِأَجْلِهَا بَلْ تُقَوَّمُ الْأَعْيَانُ بِاعْتِبَارِهَا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَكُونَ هِيَ مُتَقَوِّمَةٌ
وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ وَحُرِّيَّتِهِ وَرَدِّ الْجَارِيَةِ مَعَ عُقْرِهَا عَلَى الْمَالِكِ، وَلَمْ يَحْكُمَا بِوُجُوبِ أَجْرِ مَنَافِعِ الْجَارِيَةِ وَالْأَوْلَادِ مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَطْلُبُ جَمِيعَ حَقِّهِ، وَأَنَّ الْمَغْرُورَ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا مَعَ أَوْلَادِهَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَهُ لَمَا سَكَتَا عَنْ بَيَانِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِمَا؛ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ حَدَثَتْ بِفِعْلِهِ، وَكَسْبِهِ، وَالْكَسْبُ لِلْمَكَاسِبِ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ النَّاسِ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ» فَلَا يَضْمَنُ مِلْكَهُ؛ وَلِأَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ غَصْبُهَا، وَكَذَا إتْلَافُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَمَّا أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهَا الْإِتْلَافُ قَبْلَ وُجُودِهَا أَوْ حَالَ وُجُودِهَا أَوْ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ أَمَّا قَبْلَ وُجُودِهَا فَلِأَنَّ إتْلَافَ الْمَعْدُومِ لَا يُمْكِنُ، وَأَمَّا حَالَ وُجُودِهَا فَلِأَنَّ الْإِتْلَافَ إذَا طَرَأَ عَلَى الْوُجُودِ رَفَعَهُ فَإِذَا قَارَنَهُ مَنَعَهُ
وَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فَلِأَنَّهَا تَنْعَدِمُ كَمَا وُجِدَتْ فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْلَافُ الْمَعْدُومِ؛ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمْوَالًا مَضْمُونَةً لَضُمِنَتْ بِالْمَنَافِعِ لِكَوْنِهَا مَثَلًا لَهَا، وَهُوَ أَعْدَلُ فَإِذَا لَمْ تُضْمَنْ بِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُضْمَنَ بِالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَاضَ لَيْسَتْ بِمِثْلٍ لِلْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَبْقَى لَا يَكُونُ مِثْلًا لِمَا يَبْقَى، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مَشْرُوطٌ بِالْمُمَاثَلَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْإِجَارَةُ أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ أَوْ لِكَوْنِهَا بِرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الشَّيْءِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ فَبَطَلَتْ الْمُقَايَسَةُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَنْفَعَةِ مِثْلٌ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِبَدَلِهَا فَيُؤَخَّرُ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لَهُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقَضَاءِ لِلْعَجْزِ لَا لِعَدَمِ الْحَقِّ، وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ لَكْمَةٍ لَا أَرْشَ لَهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ إيذَاءٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ: مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَا يُسَلَّمُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عِبَارَةٌ عَنْ إحْرَازِ الشَّيْءِ وَادِّخَارِهِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ فِي نَوَائِبِ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنَافِعِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ مُتَمَوِّلٌ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ مَوْجُودٌ مُحَرَّزٌ مُدَّخَرٌ، وَلَا يُقَالُ فُلَانٌ مُتَمَوِّلٌ، وَلَا مَالَ لَهُ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَبِكُلِّ مَا يَسْتَعْمِلُهُ وَلِهَذَا لَا تُعْتَبَرُ الْمَنَافِعُ مِنْ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ حَتَّى جَازَ لَهُ إعَارَةُ جَمِيعِ مَالِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَالًا لَمَا جَازَ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ وَجَوَازُهَا مَهْرًا بِاتِّفَاقِهِمَا؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَالًا بِالتَّرَاضِي وَلِهَذَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ الْعَبْدِ التَّاجِرِ، وَأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَالْمُضَارِبِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ، وَقَوْلُهُ الْمَالُ مَخْلُوقٌ لِمَصَالِحِنَا إلَخْ قُلْنَا هُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِصِفَةِ الْإِحْرَازِ سُمِّيَ مَالًا وَالْمَنَافِعُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا خَمْرُ الْمُسْلِمِ وَخِنْزِيرُهُ فَلِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا فِي حَقِّهِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِمَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَضَمِنَ لَوْ كَانَا لِذِمِّيٍّ) أَيْ ضَمِنَ مُتْلِفُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إنْ كَانَا لِذِمِّيٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَسُكْنَى الدَّارِ أَجْرٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا، وَلَا سَكَنَهَا، وَلَكِنْ حَبَسَهَا أَيَّامًا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا. اهـ أَتْقَانِيٌّ.
قَالَ مَشَايِخُنَا: هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ فَإِنْ كَانَ مُعَدًّا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْغَصْبِ، وَإِلَّا فَلَا، وَفِي الْفَتَاوَى الْكُبْرَى مَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفَةِ مَضْمُونَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْ لَا نَظَرًا لِلْوَقْفِ، وَفِي الْمُجْتَبَى، وَأَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ يُفْتُونَ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُسْتَغَلَّاتِ وَالْأَوْقَافِ، وَأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَيُوجِبُونَ أَجْرَ مَنَافِعِهَا عَلَى الْغَصَبَةِ. اهـ مِعْرَاجٌ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا حَكَمَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ وَلَدِ الْمَغْرُورِ) أَيْ الَّذِي وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى مِلْكِ نِكَاحٍ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: لَضُمِنَتْ بِالْمَنَافِعِ) أَيْ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ تُضْمَنَ بِالْأَعْيَانِ) أَيْ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. اهـ غَايَةٌ.
(قَوْلُهُ: بِالنَّصِّ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. اهـ. (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ وَضَمِنَ لَوْ كَانَا لِذِمِّيٍّ) قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي: نَصْرَانِيٌّ غَصَبَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ يَضْمَنُ مِثْلَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَقْرَضَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ يَصِحُّ وَيَجِبُ مِثْلُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ خِنْزِيرًا عَلَى ذِمِّيٍّ ذِمِّيٌّ مِثْلُهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ خِنْزِيرًا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا، وَلَا يَضْمَنُ مِثْلَهَا، وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ عَلَى ذِمِّيٍّ خِنْزِيرًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: فَلَا ضَمَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمَا تَقَوُّمٌ عِنْدَهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ ثُمَّ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَأَمَّا الْخِنْزِيرُ إذَا أَتْلَفَهُ الْمُسْلِمُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا كَذَا ذَكَرَ الْخِلَافَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ كَالْخَمْرِ فَيَضْمَنُهُ كَمَا يَضْمَنُ الْخَمْرَ إلَّا أَنَّ فِي الْخَمْرِ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ فَوَجَبَتْ