الْعَقْلَ فَمَنْ غَلَبَ مِنْ الْبَشَرِ عَقْلُهُ عَلَى هَوَاهُ كَانَ أَفْضَلَ خَلْقِهِ لِمَا يُقَاسِي مِنْ مُخَالَفَةِ الْهَوَى وَمُكَابَدَةِ النَّفْسِ وَمَنْ غَلَبَ هَوَاهُ عَلَى عَقْلِهِ كَانَ أَرْدَأَ مِنْ الْبَهَائِمِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44] فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ ذَوِي النُّهَى وَجَعَلَ مِنْهُمْ أَعْلَامَ الدِّينِ وَأَئِمَّةَ الْهُدَى وَمَصَابِيحَ الدُّجَى وَابْتَلَى بَعْضَهُمْ بِمَا شَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الرَّدَى كَالْجُنُونِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْعَقْلِ وَالصِّغَرِ وَالْعَتَهِ الْمُوجِبَيْنِ لِنُقْصَانِهِ فَجَعَلَ تَصَرُّفَهُمَا غَيْرَ نَافِذٍ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ مُعَامَلَتُهُمَا ضَرَرًا عَلَيْهِمَا بِأَنْ يَسْتَجِرُّ مَنْ يُعَامِلُهُمَا مَا لَهُمَا بِاحْتِيَالِهِ الْكَامِلِ وَجَعَلَ مَنْ يَنْظُرُ فِي مَالِهِمَا خَاصًّا وَعَامًّا وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ النَّظَرَ لَهُمَا وَجَعَلَ الصِّبَا وَالْجُنُونَ سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَيْهِمَا كُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا وَالرِّقُّ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحَجْرِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ كَامِلُ الرَّأْيِ كَالْحُرِّ غَيْرَ أَنَّهُ وَمَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِأَجْلِ حَقِّ الْمَوْلَى، وَالْإِنْسَانُ إذَا مُنِعَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالْحُرِّ لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلِهَذَا يُؤْخَذُ الْعَبْدُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى وَلِعَدَمِ نُفُوذِهِ فِي الْحَالِ وَتَأَخُّرِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ جَعَلَهُ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْحُكْمِيَّاتِ دُونَ الْحِسِّيَّاتِ وَنُفُوذُ الْقَوْلِ حُكْمِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ وَيُقْبَلُ وَالْفِعْلُ حِسِّيٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إذَا وَقَعَ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ عَنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لَا فِعْلًا

، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ صَبِيٍّ وَعَبْدٍ بِلَا إذْنِ وَلِيٍّ وَسَيِّدٍ)؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ عَدِيمُ الْعَقْلِ إنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا فَعَقْلُهُ نَاقِصٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدَالِ وَهُوَ بِالْبُلُوغِ فَيَحْتَمِلُ فِيهِ الضَّرَرُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَمَنْعِ الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ زَالَ فَيَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ إنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ كَالْحُرِّ الصَّغِيرِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ) يَعْنِي لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ أَصْلًا لَوْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْعِبَارَةِ بِالتَّمْيِيزِ وَهُوَ لَا تَمْيِيزَ لَهُ فَصَارَ كَبَيْعِ الطُّوطِيِّ وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالْعَاقِلِ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، وَفِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَهُوَ النَّاقِصُ الْعَقْلِ، وَقِيلَ هُوَ الْمَدْهُوشُ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ هُوَ مَنْ كَانَ قَلِيلَ الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ وَلَا يَشْتُمُ كَمَا يَفْعَلُ الْمَجْنُونُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ عَقَدَ مِنْهُمْ وَهُوَ يَعْقِلُهُ يُجِيزُهُ الْوَلِيُّ أَوْ يَفْسَخُهُ) أَيْ مَنْ عَقَدَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُورِينَ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ وَالشِّرَاءُ جَالِبٌ لَهُ وَيَعْلَمَ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ مِنْ الْيَسِيرِ وَيَقْصِدَ بِهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَالزِّيَادَةِ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْتَمِلُ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ كُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنْهُ) ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ أَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا صَارَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْبُلُوغِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ أُحُدٍ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالرِّقُّ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَقِيلَ الرِّقُّ إلَخْ. اهـ. (قَوْلُهُ ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُوجِبُ الْحَجْرَ إلَخْ) حَتَّى يُؤَاخَذَ بِالْأَفْعَالِ حَتَّى إنَّ طِفْلَ يَوْمٍ لَوْ انْقَلَبَ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ فَأَتْلَفَهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفِيقُ إذَا مَزَّقَ ثَوْبَ إنْسَانٍ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَقِفُ عَلَى الْقَصْدِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا تُوجَدُ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً وَلَا إمْكَانَ لِرَدِّ مَا هُوَ ثَابِتٌ حِسًّا بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الصِّبَا وَالْجُنُونَ يُؤَثِّرَانِ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ فَسَقَطَتْ عَنْهُمَا لِقُصُورٍ فِي فِعْلِهِمَا لِعَدَمِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ فَيُحْتَمَلُ فِيهِ) أَيْ فِي تَصَرُّفِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَرَادَ بِالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبَ الَّذِي يُجَنُّ وَلَا يُفِيقُ وَهُوَ الْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ وَهُوَ الْمَعْتُوهُ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ هَذَا اهـ.

(قَوْلُهُ فَهُوَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ كَالْعَاقِلِ) يَقْتَضِي أَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْأَتْقَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَقَدْ نَقَلْت عِبَارَتَهُ بَعْدَ ثَلَاثِ قَوْلَاتٍ فِي هَذَا الْمُجَرَّدِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إلَخْ فَانْظُرْهُ أَقُولُ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْحَقَّ التَّفْصِيلُ فَإِنْ كَانَ لِإِفَاقَتِهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَعَقَدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ النَّفَاذُ كَالْعَاقِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِإِفَاقَتِهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَعَقَدَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ فَالْحُكْمُ فِيهِ الْوَقْفُ كَالصَّبِيِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ مَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الْأَوَّلِ وَمَا ذَكَرَهُ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى الثَّانِي هَذَا مَا ظَهَرَ لِي حَالَ الْمُطَالَعَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْتُوهَ الْبَالِغَ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ أَمْ لَا فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فَالْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ مَالَ إلَى الْوُجُوبِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ مَالَ إلَى السُّقُوطِ. اهـ. سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ فِي الْوَرَقَةِ الْآتِيَةِ فِي الشَّرْح أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ. اهـ. .

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَمَنْ عَقَدَ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ الثَّلَاثَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ مِنْهُمْ مَا نَصُّهُ قَالَ خُوَاهَرْزَادَهْ أَيْ مِنْ الصَّغِيرِ وَالْعَبْدِ ذَكَرَ الْجَمِيعَ وَأَرَادَ التَّثْنِيَةَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وَقَالَ فِي شَرْحِ النَّافِعِ أَرَادَ الصَّغِيرَ وَالْعَبْدَ وَالْمَجْنُونَ الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ لَا الَّذِي ذَهَبَ عَقْلُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَ مِثْلِ هَذَا لَا يَصِحُّ وَإِنْ لَحِقَهُ الْإِجَازَةُ وَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ وَهُوَ يَعْقِلُهُ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ أَوْ يَفْسَخُهُ) يَعْنِي إذَا بَاعَ الصَّغِيرُ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَاهُ فَلَحِقَهُ الْإِجَازَةُ فَإِنْ عَقَلَ مَعْنَى الْعَقْدِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَكَذَا الْعَبْدُ الصَّغِيرُ وَكَذَا الْمَجْنُونُ الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ إذَا عَقَدَ فَأَجَازَهُ الْوَلِيُّ جَازَ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْعَقْدُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ مَعْنَى الْبَيْعِ اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ يَشُوبُهُ ضَرَرٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ وَالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015