وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْحَجَّامِ) أَيْ جَازَ أَخْذُ أَجْرِ الْحِجَامَةِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احْتَجَمَ وَأَعْطَى أُجْرَتَهُ» وَلِأَنَّهُ جَرَى التَّعَارُفُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا عَمَلِيًّا، وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ لَا يَحِلُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ عَسْبِ التَّيْسِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَقَفِيزِ الطَّحَّانِ» قُلْنَا هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لَهُ رَجُلٌ إنَّ لِي عِيَالًا وَغُلَامًا حَجَّامًا أَفَأُطْعِمُ عِيَالِي مِنْ كَسْبِهِ قَالَ نَعَمْ».
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ) أَيْ لَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةِ عَسْبِ التَّيْسِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ» وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْبَالُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ أَخْذُ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ الْمَاءِ وَهُوَ نَجَسٌ مَهِينٌ لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْأَذَانِ وَالْحَجِّ وَالْإِمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ) يَعْنِي لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ غَيْرِ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ وَكَوْنُهُ عِبَادَةً لَا يُنَافِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَالْفِقْهِ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَعَهِدَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَإِنْ اُتُّخِذْت مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ مَتَى وَقَعَتْ كَانَتْ لِلْعَامِلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ عَلَى عَمَلٍ وَقَعَ لَهُ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُعَلِّمُ إلَّا بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْمُتَعَلِّمِ فَيَكُونُ مُلْتَزِمًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَالْفِقْهِ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْأَجِيرُ، وَكَذَا الْأَجْرُ يَكُونُ لِلْآمِرِ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَنْهُ نِيَابَةً، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الْمَأْمُورِ فِيهِمَا بَلْ أَهْلِيَّةُ الْآمِرِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْكَافِرَ فِيهِمَا وَلَا يَجُوزُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْكَافِرَ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمَ وَمَا لَا فَلَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ) وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا بَنَى أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدُوا مِنْ قِلَّةِ الْحُفَّاظِ وَرَغْبَةِ النَّاسِ فِيهِمْ وَكَانَ لَهُمْ عَطِيَّاتٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَافْتِقَادٌ مِنْ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي مُجَازَاةِ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ مُرُوءَةٍ يُعِينُونَهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَكَانُوا يُفْتُونَ بِوُجُوبِ التَّعْلِيمِ خَوْفًا مِنْ ذَهَابِ الْقُرْآنِ وَتَحْرِيضًا عَلَى التَّعْلِيمِ حَتَّى يَنْهَضُوا لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَكْثُرَ حُفَّاظُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَاشْتَغَلَ الْحُفَّاظُ بِمَعَاشِهِمْ وَقَلَّ مَنْ يَعْلَمُ حِسْبَةً وَلَا يَتَفَرَّغُونَ لَهُ أَيْضًا فَإِنَّ حَاجَتَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ بَابُ التَّعْلِيمِ بِالْأَجْرِ لَذَهَبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَالْحَجَّامِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا الْحَجَّامُ فَلِمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «احْتَجَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْطَى الْحَجَّامَ»، وَلَوْ كَانَ فِيهِ كَرَاهِيَةٌ لَمْ يُعْطِهِ وَفِي رِوَايَةِ السُّنَنِ، وَلَوْ عَلِمَهُ خَبِيثًا لَمْ يُعْطِ، وَحَدَّثَ صَاحِبُ السُّنَنِ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالتِّجَارَةِ مُسْنِدًا إلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ «حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ» وَلِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ أُبِيحَ اسْتِيفَاؤُهُ فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ فَإِنْ قُلْت حَدَّثَ صَاحِبُ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ» فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ؟ قُلْت لَا شَكَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فَلَوْ كَانَ خَبِيثًا لَمْ يُعْطِهِ الْأَجْرَ فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْخُبْثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ طَبْعًا مِنْ حَيْثُ الْمَرْأَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالدَّنَاءَةِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ إنَّ رَاوِيَهُ لَيْسَ كَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَالْفِقْهِ فَلَا يُعَارِضُ الْحَدِيثُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيُعْمَلُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَهُ. اهـ.
. (قَوْلُهُ إنَّ مِنْ السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ) الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِئْجَارُ التَّيْسِ لِيُنْزِيَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ النَّزْوُ إلَّا بِنَشَاطِ التَّيْسِ وَلَيْسَ فِي يَدِ الْعَبْدِ إحْدَاثُ النَّشَاطِ فَكَانَ اسْتِئْجَارًا عَلَى عَمَلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ الْمُؤَجَّرُ اهـ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَفِيهِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ. عَسْبُ الْفَحْلِ مَاؤُهُ فَرَسًا كَانَ أَوْ بَعِيرًا أَوْ غَيْرَهُمَا وَعَسْبُهُ أَيْضًا ضِرَابُهُ يُقَالُ عَسَبَ الْفَحْلُ النَّاقَةَ يَعْسِبُهَا عَسْبًا وَلَمْ يَنْهَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ الْكِرَاءِ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَيْهِ فَإِنْ إعَارَةَ الْفَحْلِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَمِنْ حَقِّهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا وَوَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كِرَاءِ عَسْبِ الْفَحْلِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَقِيلَ يُقَالُ لِكِرَاءِ الْفَحْلِ عَسْبٌ وَعَسَبَ فَحْلَهُ يَعْسِبُهُ أَيْ أَكْرَاهُ وَعَسَبْت الرَّجُلَ إذَا أَعْطَيْته كِرَاءَ ضِرَابِ فَحْلِهِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي فِيهِ وَلَا بُدَّ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ تَعْيِينِ الْعَمَلِ وَمَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُجَوِّزُ فِي كُلِّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ) أَيْ حَتَّى لَوْ تَعَيَّنَ بِأَنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ الْمُفْتِي وَاحِدًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ بِالْإِجْمَاعِ وَبِقَوْلِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْهُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَنَصُّ أَحْمَدَ مِثْلُ قَوْلِنَا، وَبِقَوْلِنَا قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ وَالزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ اهـ.
(قَوْلُهُ وَقَلَّ مَنْ يَعْلَمُ حِسْبَةً) وَذَكَرَ فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى: الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ الْفِقْهِ لَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ بَابِ الْقِسْمَةِ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي وَفِي الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْحِرَفِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ يَجُوزُ وَفِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ لَا يَجُوزُ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ مَشَايِخَ بَلْخٍ اخْتَارُوا قَوْلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْمُعَلِّمِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَنَحْنُ أَيْضًا نُفْتِي بِالْجَوَازِ. إلَى هُنَا لَفْظُ التَّتِمَّةِ ثُمَّ قَالَ فِيهَا اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيُعَلِّمَ غُلَامَهُ أَوْ وَلَدَهُ شِعْرًا أَوْ أَدَبًا أَوْ حِرْفَةً