وَفِي الْبَيَانِ وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُكْرَهُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ النَّاسَ بِالتُّهْمَةِ فَيَخْلُو بِبَعْضِهِمْ فَيَقُولُ لَك الْأَمَانُ؟ وَأَخْبِرْنِي فَيُخْبِرُهُ فَقَالَ: إي وَاَللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيُغْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ وَجْهِ الْخَدِيعَةِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَلَعَلَّهُ يُخْبِرُهُ بِالْبَاطِلِ لِيَنْجُوَ مِنْ عِقَابِهِ، فَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَابِ الْإِقْرَارِ تَحْتَ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ لَا يَلْزَمُهُ، اُنْظُرْ تَمَامَ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَذْفِ.

وَأَمَّا مُقَابَلَةُ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَكَرَ ابْنُ سَهْلٍ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا انْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ بَاعَ زَوْجَتَهُ نُكِّلَ نَكَالًا شَدِيدًا وَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِوَاحِدَةٍ بَيِّنَةٍ، وَكَذَلِكَ إذَا آذَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ نُكِّلَ وَأُدِّبَ، وَإِنْ آذَى الشُّهُودَ نُكِّلَ بِهِ أَيْضًا.

وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أَحَدٍ بِمَا لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أُدِّبَ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي عَالِمٍ بِمَا لَا يَجِبُ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ، وَفِي بَابِ الْعُقُوبَةِ بِالتَّعْزِيرِ ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَأَمَّا تَأَنِّيه فِي تَرْدِيدِ الْخُصُومِ عِنْدَ اللُّبْسِ لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْآدَابِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْأَخْذُ بِهَا.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا طَالَ الْخِصَامُ فِي أَمْرٍ وَكَثُرَ التَّشْغِيبُ فِيهِ، فَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُحَرِّقَ كُتُبَهُمْ إذَا رَجَا بِذَلِكَ تَقَارُبَ أَمْرِهِمْ، وَيَفْسَخُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْحِجَجِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِابْتِدَاءِ الْحُكُومَةِ وَهُوَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا رَدُّ الْخُصُومِ إلَى وَسَاطَةِ الْأُمَنَاءِ لِيَفْصِلُوا بَيْنَهُمْ بِالصُّلْحِ، فَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ وَمَسَائِلُهُ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ آدَابِ الْقَاضِي: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا خَشِيَ مِنْ تَفَاقُمِ الْأَمْرِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ أَوْ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ، سَوَّى بَيْنَهُمَا وَأَقَامَهُمَا وَأَمَرَهُمَا بِالصُّلْحِ.

وَقَدْ أَقَامَ سَحْنُونٌ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي جِيرَانِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَقَالَ: اُسْتُرَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا وَلَا تُطْلِعَانِ عَلَى سِرِّكُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فِي الْوَسَائِطِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015