قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا تَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ لَا تَلْزَمُنَا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِفَائِدَةٍ فِيهِ وَمَنْفَعَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فَآيَةُ يُوسُفَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مُقْتَدًى بِهَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا.
تَنْبِيهٌ: اُخْتُلِفَ فِي الشَّاهِدِ الَّذِي صَدَرَتْ مِنْهُ الْمَقَالَةُ، فَرُوِيَ أَنَّهُ طِفْلٌ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ رَجُلٌ حَكِيمٌ ذُو عَقْلٍ كَانَ الْوَزِيرُ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَرْأَةِ قِيلَ: إنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا، قَالَ السُّدِّيُّ وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ: أَنَّهُ طِفْلٌ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ، يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَاحِبَ يُوسُفَ لَيْسَ بِصَبِيٍّ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ وَيُضَعِّفُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ السَّوْدَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبَ يُوسُفَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ طِفْلٌ صَغِيرٌ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْأَمَارَاتِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَفِيمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا فَالْحُجَّةُ قَائِمَةٌ مِنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَرْشَدَنَا عَلَى لِسَانِهِ إلَى التَّفَطُّنِ وَالتَّيَقُّظِ وَالنَّظَرِ إلَى الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ، الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا صِدْقُ الْمُحِقِّ، وَبُطْلَانُ قَوْلِ الْمُبْطِلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْكَبِيرِ اجْتِهَادٌ وَرَأْيٌ مِنْهُ، وَنُطْقُ الصَّغِيرِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ وَإِعْلَامٌ لِلِاسْتِبْصَارِ وَالْعُثُورِ عَلَى الْحَقِّ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فَوْرَ التَّنُّورِ عَلَامَةً لِنُوحٍ عَلَى حُلُولِ الْغَرَقِ بِقَوْمِهِ، وَجَعَلَ فَقْدَ الْحُوتِ عَلَامَةً لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى لِقَائِهِ الْخَضِرَ، وَجَعَلَ مَنْعَ زَكَرِيَّا الْكَلَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا عَلَامَةً لَهُ عَلَى هِبَةِ الْوَلَدِ.