ولا موضع أولى بالتكرار للتوكيد من السبب الذي أنزلت فيه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: 1] لأنهم أرادوه على أن يعبد ما يعبدون، ليعبدوا ما يعبد، وأبدؤوا في ذلك وأعادوا، فأراد الله، عزّ وجلّ، حسم أطماعهم وإكذاب ظنونهم، فأبدأ وأعاد في الجواب. وهو معنى قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم: 9] أي تلين لهم في دينك فيلينون في أديانهم.
وفيه وجه آخر، وهو: أن القرآن كان ينزل شيئا بعد شيء وآية بعد آية، حتى لربما نزل الحرفان والثلاثة.
قال زيد بن ثابت: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله. فجاء عبد الله ابن أمّ مكتوم فقال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الضرر ما ترى. قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، على فخذي حتى خشيت أن ترضّها، ثم قال: اكتب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] .
وروى عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن أنه قال في قول الله عز وجل: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] قال: كان ينزل آية وآيتين وآيات، جوابا لهم عما يسألون وردّا على النبي. وكذلك معنى قوله سبحانه: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] شيئا بعد شيء.
فكأن المشركين قالوا له: أسلم ببعض آلهتنا حتى نؤمن بإلهك، فأنزل الله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) [الكافرون: 2، 3] . يريد إن لم تؤمنوا حتى أفعل ذلك. ثم غبروا مدّة من المدد وقالوا: تعبد آلهتنا يوما أو شهرا أو حولا، ونعبد إلهك يوما أو شهرا أو حولا، فأنزل الله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) [الكافرون: 4، 5] . على شريطة أن تؤمنوا به في وقت وتشركوا به في وقت.
قال أبو محمد: وهذا تمثيل أردت أن أريك به موضع الإمكان.
وأما تكرار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] فإنه عدّد في هذه السورة نعماءه، وأذكر عباده آلاءه، ونبههم على قدرته ولطفه بخلفه، ثم أتبع ذكر كل خلّة وصفها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، ليفهّمهم النّعم ويقرّرهم بها، وهذا كقولك للرجل أجل أحسنت إليه دهرك وتابعت عنده الأيادي، وهو في ذلك