ويأتيه جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالسُّنَنِ، كَمَا كَانَ يَأْتِيهِ بِالْقُرْآنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ" يَعْنِي مِنَ السُّنَنِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ -فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ- قَطَعَ أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ1 وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ2 أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بِالْحَرَّةِ، حَتَّى مَاتُوا -ثُمَّ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُمْ بِأَشَدِّ الْقِصَاصِ لِغَدْرِهِمْ، وَسُوءِ مُكَافَأَتِهِمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَتْلِهِمْ رِعَاءَهُ وَسَوْقِهِمُ الْإِبِلَ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْحُدُودُ، وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ، مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْبَيْضَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، بَيْضَةُ الْحَدِيدِ، الَّتِي تَغْفِرُ الرَّأْسَ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ الْحَبْلَ مِنْ حِبَالِ السُّفُنِ.
قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ، يَبْلُغُ دَنَانِيرَ كَثِيرَةً.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَمَخَارِجَ كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ تَكْثِيرٍ لِمَا يَسْرِقُ السَّارِقُ، فَيُصْرَفُ إِلَى بَيْضَةٍ تُسَاوِي دَنَانِيرَ، وَحَبْلٍ عَظِيمٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ السَّارِقُ.
وَلَا مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، أَنْ يَقُولُوا: قَبَّحَ اللَّهُ فَلَانًا، فَإِنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلضَّرْبِ فِي عِقْدِ جَوْهَرٍ، وَتَعَرَّضَ3 لِعُقُوبَةِ الْغُلُولِ فِي جِرَابِ مِسْكٍ.
وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا، أَنْ يُقَالَ: لَعَنَهُ اللَّهُ، تَعَرَّضَ لِقَطْعِ الْيَدِ فِي حَبْلٍ رَثٍّ، أَوْ كُبَّةِ شَعْرٍ، أَوْ إداوة4 خلق، وَكلما كَانَ من هَذَا أَحْقَر، كَانَ أبلغ.