إن أول ما يلفت النظر في هذه السورة أنها ليست مصدرة بالآية الشهيرة: (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ)، ولذلك اختلف العلماء في علة عدم تصدير سورة براءة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) على أقوال عدة، وأشهر هذه الأقوال ثلاثة، وسنبدأ بالأضعف ثم الأقوى، ثم نرجح ما نراه راجحاً على عادتنا في التفسير.
فقد قيل: إن من أسباب عدم ذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول سورة براءة أنه جرت عادة العرب على أنه إذا كان بين قوم وقوم عهد، فأراد طرف أن ينقضه كتبوا إلى الطرف الآخر كتاباً غير مصدر بالبسملة، وهؤلاء يعنون بكلمة: (بسم الله الرحمن الرحيم) (باسمك اللهم)، فهذا قول ذكره العلماء، وهو أضعف الأقوال.
القول الثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ابن عباس سأل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقال له: (لم جعلتم سورة الأنفال -وهي من المثاني- قبل سورة التوبة -وهي من المئين- ولم تجعلوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه لـ ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية يقول: ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا، وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وإن سورة التوبة من آخر ما نزل، فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحدة أم لا، فاختلف الصحابة، فمنهم من قال: إنهما سورة واحدة، ومنهم من قال: إنهما سورتان، فلم يفصلوا بينهما، وجعلوا بينهما فرجة، حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان، ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يبقى قول من قال: إنهما سورة واحدة.
يعني أن الصحابة تراضوا على هذا القول، حيث جعلوا بينهما فرجة حتى يرضوا من قال: إنهما سورتان، ولم يكتبوا (باسم الله الرحمن الرحيم) حتى يرضوا من قال: إنهما سورة واحدة.
وهذا القول اختاره العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، وقال كعادته: قال مقيده عفا الله عنك الله عنه: وهو أظهر الأقوال عندي.
أي: عند الشنقيطي رحمه الله.
وهذا بناء على صحة الحديث، والحديث رواه الحاكم كما قلت، وقال: صحيح على شرطيهما ولم يخرجاه.
أي: على شرطي البخاري ومسلم، ولم يخرجاه في الصحيحين.
قلت: رواه أحمد في المسند، ورواه البيهقي في السنن، ولكن قال الألباني رحمه الله: إن الحديث ضعيف، وأغرب منه قول العلامة أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند: إن الحديث موضوع لا أصل له.
ولم أطلع إلى الآن على نص كلامه.
والحق أن المتن يؤيد قول أحمد محمد شاكر رحمه الله؛ لأن الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يبين لهم هل هما سورة أو سورتان، وهذا صعب أن يقال، فمتن الحديث يؤيد قول العلامة أحمد محمد شاكر: إن الحديث لا أصل له.
وممن رأى صحة الحديث من العلماء الترمذي، فقد حسنه وأخذ به، والأثر مقدم على العقل ومقدم على الرأي عند كثيرين، فلذلك اختار الشنقيطي رحمه الله أن أظهر الأقوال هو هذا القول المحكي عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
القول الثالث: مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعن سفيان بن عيينة المحدث المشهور، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، وهو الذي نراه ونرجحه ونختاره والله أعلم، وهو أن سورة براءة نزلت بالسيف، و (بسم الله الرحمن الرحيم) فيها أمان ورحمة، والأمان والرحمة لا يتفقان مع السيف، فسورة براءة نزلت بالسيف والبراءة من أهل الإشراك، وإثبات الحجة على المنافقين، وهذا لا يتفق مع قوله جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم).
هذا مجمل الأقوال الثلاثة التي ذكرها العلماء رحمهم الله في علة ترك تصدير سورة براءة بقول الرب جل وعلا: (بسم الله الرحمن الرحيم).
وبقية الأقوال يجب ألا ينظر فيها؛ لأنها بعيدة جداً -فيما نحسبه- عن الصواب، والله تعالى أعلم.