قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:101 - 104].
هذه الآية فيها أن الله أعطى موسى التسع الآيات، لكن نريد أن نبين فيها التدرج في الدعوة، فإن الله قال لموسى لما بعثه إلى فرعون مع أخيه: {فَقُوْلَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، لكن موسى هنا قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وهذا ليس قولاً ليناً؛ إذ أن معنى الآية: أن موسى بدأ بالقول اللين حتى استفزه فرعون وأراد أن يخرجه من الأرض وآذاه، فغير موسى خطابه وقال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
فلما قال فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، قال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ} [الإسراء:102]، أي: الآيات، {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، أي: حججاً وبراهين، {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء:102 - 103]، أي: أخرجناه وأنجينا موسى فالأرض هي أرض مصر؛ لأن القرآن يذكر أنها أرض مصر التي كان يسكنها بنو إسرائيل وأراد فرعون أن يخرج موسى منها.
ثم قال الله: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، السابقون من المفسرين يقولون: إن المقصود بالأرض هنا: أرض مصر والشام، وقوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:104]، أي: يوم القيامة، على القول بأن: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، أي: مخلوطين ممزوجين مع الناس.
وعلى القول الآخر أي: أنكم مخلوطون قبل يوم القيامة مع الناس.
والظاهر والعلم عند الله: أن الأرض هنا غير الأرض في الآية الأولى، فقوله جل وعلا: {اسْكُنُوا الأَرْضَ} [الإسراء:104]، لم يحدد لهم فيها موطناً يسكنون فيه، فهذا أمر قدري، والمعنى والعلم عند الله ولا نجزم به: أن الله فرقهم في الأرض، بمعنى اسكنوا الأرض جميعاً، ولذلك انتشر اليهود في أكثر أرجاء العالم.
فقول الله بعدها: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ} [الإسراء:104]، أي: باليهود: {لَفِيفًا} [الإسراء:104]، يعني: مجتمعين من كل مكان، وهذا واقع في عصرنا كما بينا في الدرس الأول: أن اليهود قدموا من جميع أصقاع العالم ونقلوا إلى دولة إسرائيل، فسكنوا الأرض متفرقين، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف:168]، أي: متفرقين، ولذلك يقال: يهود الدونمة، يهود الفلاشى الذين كانوا يسكنون الحبشة، وقلنا: كان في اليمن أربعة ألاف يهودي هاجروا إلى فلسطين، كما هاجر إليها يهود من بولندا، ولذلك فإن زعماء إسرائيل من دول متفرقة.
ولذلك اليهود تاريخياً في سكناهم لدول العالم كانوا يأخذون حارات تسمى: حارات اليهود، واليهود ليسوا قوماً يملكون دعوة، أي فهم لا يدعون أحداً لليهودية، وليسوا كالمسلمين أو كالنصارى الذين يسمون دعوتهم تبشيراً، فديننا ولله الحمد دين هداية، ولذا ندعو غيرنا، أما اليهود فلا يدعون إلى دينهم؛ لأن دينهم بالتوارث عبر الأم، يعني: من خلال الأم لا من خلال الأب، وهو دين عنصري لا يتجاوزهم إلى غيرهم.
فسكنوا الأرض في كل مكان، ثم لما قامت دولة إسرائيل تحقق الوعد القرآني: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، هذا كله خطاب الله عن بني إسرائيل.