ثم ذكر الرب جل وعلا بعد هذه القضية قضية أخرى وهي حقيقة العبودية، فقال سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
فمن كمال ربوبيته، وكمال ألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته أنه ما من عبد في السماء والأرض إلا وهو فقير إلى الله جل وعلا كل الفقر، ويسأل الله جل وعلا حوائجه ومقتضيات أمره، سواء كان يسألها بلسان حاله أو بلسان مقاله، فكل الناس فقراء إلى الله تبارك وتعالى.
فترى الشاب لا يعرف المسجد ولا يعرف الصلاة، فإذا أراد أن يدخل قاعة الامتحان يجد نفسه دون أن يشعر مضطراً إلى أن يرفع بصره إلى السماء، ويرفع يديه إليها؛ لأنه يعلم بالفطرة أن هناك رباً، قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وفي قوله: (يسأله) إشارة إلى أهمية الدعاء، فهو من أعظم العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة).
فالإنسان الذي يكثر من دعاء الرب جل وعلا وحده، ويلجأ إليه في كل أمر يصير إليه، فهذا من دلائل كمال محبة الله ومعرفته جل وعلا، وكان موسى عليه السلام يستحيي أن يسأل الله بعض حاجته، فأوحى الرب جل وعلا إليه: يا موسى! سلني ملح عجينتك، يا موسى! سلني شسع نعلك، يا موسى! سلني وسلني.
فإن الله جل وعلى يحب أن يسأله العبد، قال بعضهم: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تغلق فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب فالمقصود: أن سؤال الرب جل وعلا من أعظم ما من الله به عليك، حتى جاء في الحديث: (أن الله يوحي إلى جبريل: يا جبريل! أخر حاجة عبدي؛ فإني أحب أن أسمع صوته) ومن ذلك السعيد الذي يحب الرب جل وعلا أن يسمع دعاءه، وخشوعه وتضرعه ومسكنته بين يدي ربه جل وعلا؟ فهذه من أعظم النعم وأجل العطايا، ولكن بني آدم طبعوا على العجل، وعلى حب الأشياء العاجلة، كما قال ربنا: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37].
ثم قال الله جل وعلا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] أي: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويفك أسيراً، ويغني فقيراً، ويشفي مريضاً، ويطعم جائعاً، إلى غير ذلك مما لا يحصى، فيقيم دولاً ويذهب أخرى، ويقيم ملكاً وينزع آخر، ويفعل تبارك وتعالى ما يشاء، لكن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] الأحسن أن تفهمه بالإيمان وبالقضاء والقدر، فإن الرب جل وعلا في أمور يبديها لا في أمور يبتدئها.
جاء الوليد بن عبادة إلى أبيه عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعبادة في مرض الموت، فقال الابن لأبيه: يا أبت! أوصني واجتهد لي، أي: ابحث لي عن وصية عظيمة، فقال: يا بني! إنك لن تبلغ العلم، ولن تجد طعم الإيمان، ولن تعرف حقيقة العلم حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: يا أبت! وكيف أدري خيره من شره؟ قال: يا بني! أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: يا بني! إنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله أول ما خلق القلم قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم قال له: يا بني! إنك إن مت على غير ذلك دخلت النار، أي: إن مت على غير الإيمان بالقدر خيره وشره.
والرضا بقضاء الله خيره وشره من أعظم مناقب الصالحين، قال الله عنهم: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، فالحياة الطيبة مدارها على الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره.